الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من قم إلى مشهد ووجع التفاصيل

بواسطة azzaman

من قم إلى مشهد ووجع التفاصيل

حاكم الشمري

 

لم أكن أتصور أن رحلة تحمل عنوان (زيارة مقدسة) يمكن أن تُثقل الروح بهذا القدر من التعب.

حين غادرت بغداد متجهًا إلى إيران، كنت أحمل في داخلي خليطًا من الحنين والإيمان والفضول. كنت أريد أن أرى قم ومشهد وطهران، لا كسائح عابر، بل كإنسان يبحث عن لحظة صفاء في عالمٍ مضطرب. لكن ما واجهته هناك كان خليطًا من الجمال والارتباك، من القداسة والفوضى، من الراحة الروحية والعناء الجسدي. قبل السفر بأيام، جلست مع موظف إحدى شركات السياحة الدينية في بغداد، وهو يتحدث بثقة عن “الفنادق الراقية” و“الخدمة المميزة” و“الرحلة المريحة”. كلامٌ منمّق، عبارات جاهزة، صور فوتوغرافية براقة تُظهر ما يفترض أنه الجنة على الأرض.

لكن ما إن صعدنا الحافلة، حتى بدأت الوعود تذوب، كما يذوب الحبر حين يلامس المطر. التأخير في الانطلاق، الازدحام، الوجوه المتذمرة، والحرارة التي تخنق الأنفاس. كان الطريق طويلًا، والمقاعد ضيقة، والصمت في البداية سرعان ما تحوّل إلى همهمات احتجاج. حين وصلنا إلى قم، كانت المدينة تغفو على صوت المآذن. شوارعها تضج بالبشر، والباعة يفترشون الأرصفة بسلعهم، فيما تسير الحشود نحو الحرم الشريف ببطء يشبه التزاحم على الأمل. في الفندق الذي وُعدنا بأنه “ممتاز”، كانت الغرف متعبة، الأسرّة تصدر صريرًا مع كل حركة، ورائحة الرطوبة تعبق في الجدران.

خطوات خاشعة

ورغم التعب، دخلت الحرم بخطوات خاشعة، أحمل نية الزيارة والدعاء. كان المكان يغمرني بهيبةٍ لا توصف، لكن ما إن خرجت حتى اصطدمت بالفوضى نفسها: نفايات مرمية، وضجيج سيارات، وازدحام يجعل من الصعب التنفس.

في مشهد، بدا الأمر أكثر رحابة، لكن المعاناة لم تغب. الفندق هذه المرة قذر جدا والحشرات تملئ غرفه النوم حاولت قتل بعضها واخبرت مسؤول الفندق واجبرته للصعود للغرفه ليرى بعينه، لكن الخدمة بطيئة، والطعام الذي قُدِّم كان باردًا لا طعم له. الزائرون من كل مكان، والأصوات تتداخل بين لغات ولهجات، والكل يبحث عن لحظة قربٍ من الإمام الرضا (ع).

كانت لحظات الدعاء في الحرم تغسل القلب من التعب، لكن ما إن تغادر الباحة حتى يعود الواقع بوجهه المتعب: طرق مزدحمة، سائقي سيارات يضاعفون الأسعار، ومطاعم تبيع الوجبة العادية بثمن وجبة فاخرة.

حين وصلنا إلى طهران، شعرت أني دخلت عالماً آخر؛ شوارع مزدحمة، بنايات شاهقة، وجوه مسرعة كأنها تخاف الوقت.

قررت أن أزور متحف السجاد الإيراني، ذلك المكان الذي كنت أظنه سيفتح لي أبواب التاريخ والجمال. المبنى أنيق من الخارج، والسجاد المعروض فيه تحف فنية لا تقدّر بثمن، كل سجادة تحكي قصة أجيال نسجتها أصابع النساء في المدن البعيدة والقرى القديمة.  لكن المفاجأة أن المتحف بلا مرشدين، ولا توجد أي لوحات تعريفية أمام المعروضات. كنت أتجول بين الجمال بصمتٍ ثقيل، أحاول أن أفهم بعيوني ما لم يفسره أحد لي.

أحسست كأن الفن هناك يختبئ خلف الصمت، ينتظر من يروي حكاياته. والأسعار؟ مرتفعة على نحوٍ لا يتناسب مع الخدمة، وكأن الدخول إلى المعرفة أصبح امتيازًا لا حقًا. خرجت من المتحف متعبًا، واتجهت إلى منطقة دربند، تلك البقعة الجبلية التي يقصدها الناس للراحة والطعام. الهواء هناك عليل، والمكان جميل، لكن الأسعار خيالية.

كوب شاي بسيط يُقدّم بثمن وجبة في مطعم راقٍ، والوجبات العادية بأسعار لا تُصدق. جلست على أحد المقاعد الحجرية المطلة على الجدول الصغير، أتأمل وجوه الناس وهي تلتقط الصور، وأفكر كم يمكن للسياحة أن تكون جميلة لو صادقت الزائر بدل أن تُتعبه.

في طريق العودة، كنت أتأمل الطريق الطويل الذي يربط المدن الثلاث، وتلك الوجوه المتعبة التي تشبه وجهي.

رحلة نظيفة

لم أكن أطلب الرفاهية، ولا الفنادق الباذخة. كل ما كنت أريده هو رحلة نظيفة، منظمة، صادقة في وعودها.

لكن ما وجدته كشف لي هشاشة التنظيم السياحي، وضعف الخدمات، وغياب الرقابة على الشركات التي تتعامل مع الزائرين كأرقام لا كبشر.

السفر في جوهره ليس مجرد انتقال من بلدٍ إلى آخر، بل هو رحلة داخل النفس. قداسة المكان وحدها لا تكفي إن لم تُحط بالاحترام والرعاية. فالزائر الذي جاء من بعيد لا يبحث عن الرفاهية، بل عن لحظة صدق، عن ابتسامة في وجهه، وعن مكانٍ يشعر فيه أن قدومه مرحَّب به لا مُستغل. رحلتي إلى إيران تركت في داخلي مزيجًا من الدهشة والخذلان. دهشة الجمال الذي يسكن التاريخ، وخذلان الحاضر الذي لم يتعلم كيف يحترم الزائر.

ومع ذلك، سيبقى في القلب حنينٌ لتلك اللحظات التي شعرت فيها أن السماء أقرب، وأن الدعاء وحده هو ما يعيد التوازن بين تعب الجسد وراحة الروح.

 


مشاهدات 43
الكاتب حاكم الشمري
أضيف 2025/11/22 - 12:37 AM
آخر تحديث 2025/11/22 - 2:24 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 112 الشهر 15535 الكلي 12677038
الوقت الآن
السبت 2025/11/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير