الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الفوضى مرآة للعصر بين العلم والفكر والروح

بواسطة azzaman

الفوضى مرآة للعصر بين العلم والفكر والروح

نوري جاسم

 

في زمن تتسارع فيه التحولات العلمية والفكرية، وتختلط فيه الأنظمة بالاحتمالات، يبرز علم الفوضى كأحد أعظم الاكتشافات التي غيّرت نظرة الإنسان إلى الكون والحياة. ولم يعد النظام هو مركز الفهم المطلق، ولا الحتمية هي مفتاح تفسير الظواهر؛ بل أصبحت الفوضى، بما تحمله من تعقيد وغموض رمزًا جديدًا لفلسفة العصر، ومفتاحًا لفهم الإنسان في عالم متحوّل ومتعدد الأوجه. والفوضى في المفهوم العلمي حيث بدأت ملامح علم الفوضى (Chaos Theory) في سبعينيات القرن العشرين على يد العالم الأمريكي إدوارد لورنتز، حين اكتشف أن الأنظمة الطبيعية كالطقس أو حركة الكواكب يمكن أن تتأثر بشكل جذري بتغييرات دقيقة في بداياتها، فيما عُرف بـ تأثير الفراشة.

لقد أظهر لورنتز أن ما يبدو فوضويًا هو في الحقيقة نظام معقد عالي الحساسية، وأن العالم لا يسير وفق خط مستقيم من الأسباب والنتائج، بل وفق شبكة من العلاقات المتشابكة التي يصعب التنبؤ بها بالكامل،

وهكذا انتقل الفكر العلمي من رؤية جامدة للكون كآلة دقيقة إلى فهم أكثر مرونة يرى في الفوضى لغة النظام العميق، لا نقيضه. ولم يبقَ أثر الفوضى محصورًا في المختبرات العلمية، بل تسلل إلى الفكر والثقافة والفن. وفي الأدب، ظهرت روايات تعكس التشتت الإنساني وتعدد الأصوات، كأعمال ميلان كونديرا وغارسيا ماركيز. وفي الفلسفة، ساد الوعي بأن الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية ومتعددة، وأن الإنسان لا يستطيع الإحاطة بالعالم بعقلانية صافية فقط. ولقد ساهم علم الفوضى في ترسيخ قيم جديدة في ثقافة العصر، المرونة بدل الجمود، والاحتمال بدل الحتمية، والتنوّع بدل الوحدة القسرية. صار الإنسان يدرك أن الجمال قد يولد من الفوضى، وأن الاضطراب ليس عدوّ النظام بل شرط لتجدده واستمراره. وظهر مفهوم الفوضى الخلّاقة (Creative Chaos) في الخطاب السياسي الأمريكي مطلع القرن الحادي والعشرين، خصوصًا على لسان كوندوليزا رايس عام 2005. وكان المقصود به أن بعض الاضطرابات السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط قد تقود إلى نظام ديمقراطي جديد. ولكن الواقع أثبت أن هذه الفوضى — وإن سُمّيت “خلّاقة” — كانت في الغالب هدّامة، إذ جلبت الصراعات وعدم الاستقرار، وأظهرت كيف يمكن للفوضى أن تُستخدم كأداة سياسية لا كقيمة إنسانية. وهنا يتجلى الفرق بين الفوضى العلمية الطبيعية التي تخلق النظام من الداخل، والفوضى السياسية المصطنعة التي تُزرع من الخارج لأهداف محددة. أما عند أهل التصوف، فالفوضى ليست اضطرابًا بل حالة وجد روحي، يتحرر فيها الإنسان من النظام العقلي المقيّد ليغوص في عمق الحقيقة الإلهية. إنها فوضى المحبة، حيث يُلغى الترتيب المنطقي، ويُستبدل بـ نظام القلب الذي لا يُدرَك بالعقل بل بالشعور. فالمتصوف يرى أن الكون — رغم ظاهره المتناقض — يسير في نظام إلهي مطلق لا يمكن للعقل الإنساني الإحاطة به.

ومن هنا، فالفوضى الروحية هي طريق إلى التوحيد، وليست هروبًا من النظام بل اندماجًا في نظام أعلى.

ويمكن تصنيف الفوضى بحسب مجالاتها إلى:

1. فوضى علمية طبيعية: تحكمها قوانين دقيقة رغم عشوائيتها الظاهرة.

2. فوضى اجتماعية: تنتج عن انهيار الأنظمة وتبدّل القيم.

3. فوضى سياسية: توظَّف أحيانًا للتغيير أو للهيمنة.

4. فوضى فكرية وثقافية: تعكس تعدد الرؤى والأفكار في عالم مفتوح.

5. فوضى إبداعية: تولّد الابتكار، وتُعد مصدرًا للخيال والإلهام.

وهكذا تتجلّى الفوضى كقوة مزدوجة الوجه، قد تكون مصدر دمار، أو نبع تجديد، بحسب كيفية إدراك الإنسان لها وتعامله معها. وإن علم الفوضى لا يقتصر على تفسير الظواهر، بل يحمل رسالة فلسفية عميقة، وأن العالم ليس ثابتًا ولا يمكن السيطرة عليه بالكامل، وأن الجمال يكمن في اللايقين ذاته. فكل محاولة لفهم الكون أو الإنسان يجب أن تراعي هذا التعقيد، وأن تعترف بحدود المعرفة الإنسانية. وهذا الإدراك يولّد تواضعًا علميًا وفكريًا وروحيًا، ويفتح أمام الإنسان أفقًا جديدًا للتعايش والإبداع. وإن ثورة علم الفوضى ليست مجرّد اكتشاف علمي، بل تحوّل ثقافي وروحي في فهم الإنسان لذاته والعالم. فمن قلب الفوضى وُلدت رؤى جديدة للنظام، ومن عمق التعقيد انبثقت قيم المرونة والتنوع. ولقد تعلّم الإنسان من الفوضى أن الحياة لا تسير على خط مستقيم، وأن الجمال يكمن في التغيّر الدائم. فالفوضى ليست دائما نفيًا للنظام، بل قد تكون مصدر صوت الحياة حين تتكلّم بلغة أكثر صدقًا وعمقًا. وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما  ..


مشاهدات 130
الكاتب نوري جاسم
أضيف 2025/11/11 - 8:00 PM
آخر تحديث 2025/11/12 - 2:49 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 108 الشهر 8145 الكلي 12569648
الوقت الآن
الأربعاء 2025/11/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير