القدرة على الإنفاق اهم من القدرة على الإقناع
كامل كريم الدليمي
في كل دورة انتخابية عراقية، يتجدد المشهد ذاته بصورة أكثر فوضوية، وأكثر فراغًا من المضمون. شوارع تغرق باللافتات والصور العملاقة، مرشحون يتنافسون في حجم اللوحة لا في حجم الفكرة، ومواكب استعراضية أشبه بعروض فنية منها بحملات سياسية. وهكذا تتحول الديمقراطية إلى مهرجان دعائي ضخم يخلو من أي مشروع وطني واضح.
المال السياسي يلعب دوره العميق في تشكيل المشهد. فبدل أن تكون الانتخابات ساحة للأفكار، تحولت إلى سوق مفتوحة للمزايدات، يتقاطع فيها النفوذ المالي بالعشائري، وتضيع فيها البرامج بين الولائم والهدايا والإعلانات الممولة. باتت القدرة على الإنفاق أهم من القدرة على الإقناع، وأصبحت الدعاية أقوى من الخطاب السياسي، حتى غدا صوت الفقير بلا صدى أمام ضجيج المال.
أما الصورة، فقد تحولت إلى سلاح الانتخابات الجديد. لم يعد المرشح بحاجة إلى رؤية، يكفيه أن يمتلك مصورًا بارعًا وفريق تسويق محترف. تنتشر الصور المصفّاة والمشاهد المصمّمة بعناية — وكأننا أمام إعلانات تجميل لا حملات انتخابية. مشاهد تُذكّر أحيانًا بالدراما السورية أو التركية، حيث يغيب الوعي ويُستحضر الإبهار، وتُستخدم الرموز الدينية والعشائرية كخلفية تجميلية لمرشح بلا مشروع.
في هذا الزحام البصري، ضاع الجمهور بين العشيرة والإغراء. فبعض الناخبين يختارون بدافع الانتماء الاجتماعي أو الطائفي، والبعض الآخر يُغرى بوعود مؤقتة أو مبالغ رمزية، فيما يغيب السؤال الجوهري: ماذا سيقدّم هذا المرشح فعلاً للوطن؟ ما برنامجه؟ ما مشروعه الاقتصادي أو الخدمي أو الإصلاحي؟
الانتخابات، التي كان يُفترض أن تكون وسيلة لتصحيح المسار السياسي، تحوّلت إلى عرضٍ موسمي للسلطة والنفوذ، يتكرر بآلياته كل أربع سنوات دون أن يحمل جديدًا. وحين يُسأل المواطن عن سبب عزوفه عن التصويت، يجيب بمرارة: “كلهم وعود وصور”.
النتيجة أن الديمقراطية في العراق اليوم تواجه أزمة معنى، لا أزمة إجراءات. فالصندوق موجود، والاقتراع قائم، لكن الإرادة الحرة ضائعة بين المال والولاء والصورة. لم يعد الناس يبحثون عن منقذ، بل عن وجه مألوف لا يخذلهم، حتى وإن لم يفعل شيئًا من قبل.
ولعل أخطر ما في الأمر أن الأجيال الجديدة بدأت تنظر إلى الانتخابات كـ”مسرحية سياسية” لا أكثر، تفقد فيها الكلمات قيمتها، وتنتصر فيها الصورة على الفكرة، ويصبح الانتماء للعشيرة أقوى من الانتماء للوطن. إن إنقاذ التجربة الديمقراطية في العراق يبدأ من إعادة الاعتبار للفكرة والبرنامج، لا للوجه والوليمة. فالوطن لا يُبنى بالإعلانات، بل بالرؤى الواضحة والمشاريع الجادة، وبوعي الناخب الذي يفرّق بين من يريد مقعدًا ومن يريد إصلاحًا .