إشاعات رحيل الشيرازي زعيم ثورة 1920  في الوثائق البريطانية

عادل الياسري

إنّ وثائق الأرشيف البريطاني في لندن تُعد بعشرات الملايين، تتناول الفترات التي سبقت الاحتلال البريطاني للعالم وتلك التي تلته في حقبة الاستعمار. والغوص في أعماقها يحتاج إلى “سبّاح ماهر” يتمتع بالصبر؛ إذ إنها تنقسم إلى أقسام متعددة، غير أن ما يهمّنا منها هو تقارير الاستخبارات وكيفية تقييمها للمعلومات الواردة إليها.عادةً تُقسَّم هذه المعلومات في التقارير إلى ثلاثة أقسام: إشاعة، وأخبار غير مؤكدة، ومصدر ثقة. ويُعدّ “مصدر الثقة” أدق المصادر التي تعتمد عليها الاستخبارات.

من هو الشيرازي؟

قبل الحديث عن الوثائق، لا بد من تعريف القارئ بالشيرازي (1840 – 1920م)، الزعيم الروحي للثورة. إنّه الميرزا محمد تقي الشيرازي، المرجع الديني في العراق، الذي كان يقيم في كربلاء. اتحدت الطوائف الإسلامية تحت لوائه للدفاع عن العراق إبّان الاحتلال البريطاني، وكان صادقًا أمينًا في فتواه بعد احتلال البصرة، إذ أرسل نجله الشيخ محمد رضا إلى الشعيبة (البصرة)، حيث مركز تجمع المجاهدين لقتال الجيش الغازي.برز الشيرازي بوضوح أمام الملأ مناوئًا دينيًا وسياسيًا للبريطانيين بعد احتلال بغداد. ونال المرجعية والزعامة الدينية من دون مؤثرات خارجية، بل بفضل القوى الوطنية بعد وفاة السيد كاظم اليزدي. وأفتى أثناء الثورة فتواه الشهيرة: «يجوز التوسل بالقوة للمطالبة بالحقوق الشرعية». وسبق أن أفتى في مرحلة الاستفتاء عن طبيعة الحكم في العراق سنة 1919 قائلاً: «ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير مسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين». ولم يقل كما قال بعضهم ـ مثل السيد كاظم اليزدي ـ: “أنا رجل حلال وحرام”.

توجد عشرات الوثائق في الأرشيف البريطاني عن مواقفه، ولكن المؤسف أني اطّلعت على رسالة ماجستير في إحدى الجامعات العراقية لم تعرض أي وثيقة بريطانية من ملفات الاستخبارات عنه. وكانت للشيرازي رسائل عديدة في الفقه، لكنه أوصى بعدم طبعها بعد وفاته. وأحمد الله على ذلك، إذ إن من أهمها (رسالة في أحكام الخل!). وكان كل من يزوره متوجهًا إلى جبهات القتال يمنحه راية جهاد مكتوبًا عليها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

موقف الاستخبارات البريطانية

جاء في أحد التقارير الموسعة عن الحركة الوطنية في كربلاء: «باختصار، أصبح بيت محمد تقي الشيرازي وكرًا لشخصيات سيئة السمعة، لم يكن هدفهم سوى الصيد في الماء العكر». والمقصود طبعًا هم الزعامات الوطنية. وقد لاقت هذه الشخصيات الدعم من ابنه محمد رضا.كما ورد في أحد التقارير أنّه أسس جمعية إسلامية لحماية الراية الإسلامية، وكان هدفها: «كبح جموح تجاوزات الأعداء». وفي إشاعة أخرى ورد أن السيد نور الياسري يتصرف ليكون ملكًا على العراق، وأن الميرزا الشيرازي يكون رئيسًا للوزراء، ويوسف السويدي واليًا لبغداد، وجعفر أبو التمن واليًا للبصرة! ومن دون شك، فمصدر هذه الإشاعة هو الاستخبارات البريطانية التي أرادت تشويه قيادة الثورة، وإظهار قادتها وكأنهم يسعون وراء مناصب شخصية.

وفاته والإشاعات التي أعقبتها

جاء في تقارير الاحتلال عن وفاته: «لقد توفي محمد تقي الشيرازي، رئيس المجتهدين في كربلاء، ليلة 17 على 18 من شهر آب 1920. وكان مريضًا منذ فترة قصيرة، ولم يفاجئنا موته». غير أنّ المس بيل (سكرتيرة المندوب السامي البريطاني) كتبت في رسائلها عبارات تشفٍّ، وصفت موته بـ «التعفن الشيخوخي». وليس غريبًا أن تكتب ذلك، ولاسيما أنّ الثورة كلفت بريطانيا العظمى عشرات القتلى، ودمّرت اقتصادها. ومن الطريف أنّي عثرت في إحدى الوثائق على رسالة من وزارة الخارجية الإيطالية تسأل البريطانيين: «كم كلفكم احتلال العراق؟»

أما الإشاعات بعد وفاته، فقد تعددت:

•قيل إنه مات حزنًا عندما اكتشف أنّ ولده محمد رضا والسيد أبو القاسم الكاشاني كانا يستخدمان ختمه في إصدار الفتاوى للعشائر.

•وقيل إن (عليًا) ضربه ميتًا لأنه رفض مشورته التي ظهرت له في المنام ليضع حدًا لإراقة الدماء.

•وأخرى تقول إنه سُمِّم.

وبرأيي، فإن مصدر هذه الإشاعات هم أعوان الإنكليز. ولا يخفى أن وفدًا أُرسل إلى بغداد، هو السيد محمد علي هبة الدين، ليتفاوض مع إدارة الاحتلال، لكنهم رفضوا التفاوض أثناء الثورة وقبل وفاته. ومع ذلك استمرت الثورة حتى بعد رحيله.

أرّخ وفاته الشاعر الشيخ الباز بقصيدة جاء فيها:

محمد التقى بدر الهدى

والقائد الأعلى الهمام العظيم

غاب وغابت جل آمالنا

ونحن في أخطر وضع وخيم

بكت عليه أعين لم تكن

تبكي لخطبٍ أو لرزء جسيم

وساسة الثورة أضحت آسى

تنعي أبًا بَرًّا عطوفًا رحيم

وافتقدت شرعة خير الورى

أرخ به فقد زعيم عظيم

□ مؤرخ