فرادة شاعر وغموض مقتله
فيصل عبد الحسن
محمود البريكان كان معضلة للأحياء في حياته وشعره وحتى في حبه الوحيد، رأيته مرة يجلس مع موظفة مكتبة جامعة البصرة التي أحبها الشاعرعلى دكة نافورة مقابل مقهى شعبي وسط مدينة البصرة داخل، وكان سعيدا جدا معها في تلك الجلسة الشعبية التي لم يفعلها أحد قبله من أهل البصرة في ذلك المكان!!
ولم أشاهد الشاعر ضاحكا بملء فمه من دون أن يغطيه بكفه لئلا تظهر أسنانه، كما كان يفعل خجلا حين يضحك مع أصدقائة...
وقد تزوج حبيبته تلك بعد فترة قصيرة من الحب المحموم، الذي يليق بشاعر كالبريكان ثم طلبت المرأة الطلاق منه فقد كان رجلاً هائماً في عالم القصيدة الخالدة، ويبحث عمن يشاركه حلمه الشعري، والنساء العاديات لهن همومهن المنزلية، وآمالهن في العيش حياة واقعية، ومن أحبها كانت منهن فلا لوم عليها.
هذا الشاعر الذي كان شعره معضلة أجيال شعرية كاملة، وقد أمن بمقولة أليوت عن القصيدة الخالدة المستمدة قوتها وخلودها من غموض حياة شاعرها، وأن شهرة أي ديوان شعر لشاعر، تأتي من غموض معاني قصائده وسيرة حياة الشاعر، وما يسببه للآخر من ارتباك في فهم ما رمى له الشاعر في هذا المقطع أو تلك الثيمة الملتبسة من القصيدة، ويبقى القارىء أو السامع رهيناً لاحتمالات عديدة، وهي عادة تتراوح بين الإعجاب الشديد والتشوش العميق لجهله بفهم ما جاء به الشاعر وما قصده في قصيدته وكأن الشاعر يكتب لنخبة من القراء وليس إلى عامة الناس.
وإذا تساءلت كيف تتناغم هذه المثيرات المختلفة في لحن واحد، أقول أن ذلك يعود إلى طبيعة المثقف المستقبل للإبداع أنى كان، فالشعر الجيد الذي نقرأه لشاعر ما يحيلنا إلى الشاعر وإلى جديته وموهبته وحسن أدائه، أما إذا أحالك شعر الشاعر إلى شاعر آخر فذلك أسوأ ما في قضية الشاعر حيث ستهمله كورقة ثانية زائدة في كتاب مطبوع.
وكنا نتساءل وقت صعود الشاعر البريكان عالم الشهرة المنضبطة بميزان الغموض، ماذا يستحثك في قراءة قصيدة لا تعرف مغازيها وتحيلك لاحتمالات عديدة ؟
ولكن ما في السوق من شعراء مزيفين لهم كتابات عن آخرين أو هم أوراق أخرى معادة خطأ في الطبع من آخرين وجاءت سهواً في تصحيف الكتاب، تجعلك تتشبث بالبريكان وأمثاله من المبدعين الذين يحرصون على الغموض في شعرهم، وعلى التفرد في كتابة قصائدهم التي تنسج عبر زمن طويل، وبعد إعادات كثيرة من الكتابة والتمحيص لكل مفردة ودراسة مستفيضة لما ستحدثه كل قصيدة تنشر، وليس إعادة قراءة الشاعر في شاعر آخر وحدها ما نبغضه في واقعنا الشعري، بل إعادة إنتاج الواقع كما هو، فالسجن في القصيدة كما هو في الواقع، والطاغية في الاستعادة الشعرية هو ذاته في الواقع!!
أن ذلك يمنعنا حقا من الإعجاب بما يكتبه معظم شعرائنا، ولو قارنا مثلا بين يانيس ريتسوس، وهو ينتصر لأبناء بلده من حاكميهم، والذي وقال عنه أراغون – الشاعر الفرنسي، أن ريتسوس يمثل شعباً بأكمله، أنه الصوت الذي يعبر عن أحلام اليونانيين ويفصح عن آلامهم.
ولنتعرف على ماهية الشعر الذي تأثرت به أجيال معاصرة للبريكان كما يبدو في قصائدها، وكانت تعده شعراً حقيقياً يصل للعامة، ولكنه لا يقول شيئا صريحا ولنتأمل قصيدته "اليدان الحقيقيتان" لريتسوس:
"ذلك الرجل الذي اختفى بكيفية غامضة
في إحدى الظهيرات،
ذلك الرجل الذي اقتيد – ربما – إلى مكان مجهول،
ترك على مائدة المطبخ
قفازين من حرير
مثل يدين مقطوعتين
لم يكن عليهما أثر للدم
أو علامة من علامات الاحتجاج
كانا مثل يديه الحقيقيتين:
متورمتين قليلا،
مفعمتين بالسكينة،
وممتلئتين بالدفء الناجم عن صبر طويل
كنا نأتي بين فينة وأخرى،
لنضع بين الأصابع الحريرية الرخوة
كسرة خبز أو زهرة
أو كأساً من نبيذ
كنا نشعر بشيء من الطمأنينة
لأنه ليس باستطاعة أحد
أن يعتقل قفازين" .
هذا الوضوح في المعاني، وهذا الدفق الشعري الصريح لا يستطيع البريكان كتابته ولاغيره من الشعراء العرب الكبار ليس لقلة الموهبة بل لعجز في حرية الكتابة!! فليس لشاعر كبير كالبريكان إلا ان يختار الغموض الايحائي، في شعره، كما فعل أليوت في قصيدته الأرض اليباب، الذي كان قد تأثر بفجائع الحرب العالمية الأولى ومآسيها فكتب رثاءً عميقا لما حدث من مجازر بشرية بطريقة شعرية حداثية لم تكن معروفة من قبل العشرينات من القرن التاسع عشر 1922.
أكتب هذه السطور عن فرادة شاعر وغموض مقتله بمناسبة صدور الأعمال الشعرية الكاملة له عن دار الشؤون الثقافية العراقية في حزيران الماضي، وهذا جهد كبير، وحميد ينسب لهذه الدار والعاملين فيها، ومن شارك في إعادادها وإخراجها، ومن هذا المنبر الإعلامي نوجه لهم التحية والشكر.
يرحم الله الشاعر الفريد محمود البريكان الذي فقده الشعر، وبكته القصيدة الحداثية، التي حلم دائما بكتابتها لتضاهي قصيدة عمالقة الشعر الحداثي العالمي، وأضاف لغموض حياته وشعره غموض مقتله على يديّ لص جاء ليسرق مالا كثيراً كان يظنه في خزانته المنزلية، فاكتشف بعد ان وقع في المحذور أنها لسيت إلا مخطوطات شعرية كثيرة كتبها البريكان، وكان يحرص على تدوينها وأخفائها لغرض في نفسه.
كاتب مقيم في المغرب*