مختار القوش الأسبق.. سادونا أسطيفان بولا 1902- 1988
نبيل يونس دمان
اعتدنا بين فترة وأخرى ان نتناول شخصية متميزة في تاريخ البلدة الحبيبة القوش، تقدم خطواتها في الحياة فائدة للأجيال التي تبحث وتعمق في سيرة الآباء والاجداد الذين رفعوا اسمها بين الملل والنحل، واليوم نتطرق الى نبذة عن حياة هذا الرجل العصامي من مرآة بلدات سهل نينوى في شمال العراق.
سادونا او صادق (حسب دفتر النفوس) مولود في القوش عام 1902 والمتزوج من نني ميخا أنطون (1905- 1962)، هو من عائلة بولا الذي هو جده، ترك دياره في سميل البلدة الأقرب الى دهوك من زاخو مطلع القرن التاسع عشر، ومن مشاهير تلك العائلة بتو بولا الذي بنى مع أخيه ميخا قصراً منيفاً في محلة التحتاني عام 1881 وما زال يتحدى الزمن وينتظر يد مخلصة تنقذه من السقوط النهائي. ذلك القصر الأكبر في القوش ويحتوي على أكثر من ثلاثين غرفة، بوابته آية في الجمال والنحت الموصلي، وهناك مكتوب بالسريانية ما يلي:
عواذا دجرجيس// دبيث حنوش
بارخ مارن لبٌَيتا هانا// وطار عاموراه من نخيانا
واشر بيه شلاما وشينا// ومَليو طاوَن وحولمانا
هانا بيتا د ميخا// وبتو بني بولا أسكا
اشتخل بيرَح ايلون// بشنَث 1881 لمارن
وترجمتها العربية هكذا:
عمل جرجيس// من بيت حنوش
بارك يا رب هذا البيت// واحرس ساكنيه من الضرر
وانشر فيه السلام والأمان// واملأه من النعم والصحة
هذا بيت ميخا..... وبتو بني بولا أسكا
استكمل البناء في شهر ايلول سنة 1881 ميلادية
يا للأسف كانت له أبواب خشبية مهيبة، لم تعد موجودة، ولا تضاهيها اليوم إلا بوابة دير السيدة حافظة الزروع.
من تلك الأرومة ولد وترعرع سادونا، وفي طفولته شهد وسمع بمجازر السفر برلك وسيل المهاجرين الذين انقطعت بهم السبل، إضافة للمجاعة وموجة الغلاء التي عمّت البلاد، كانت تلك السنين عجاف وقد أشرفت دولة الرجل المريض على الانتهاء، ليعقبها دخول الانكليز العراق من ثغره الباسم ليصلوا الى الموصل عام 1918.
في أوائل العشرينات وبعد تشكيل الحكومة العراقية وانشاء وزارة الدفاع عام، 1921صدرت دعوات لتجنيد الشباب في الجيش والشرطة، فكان دخول سادونا سلك الجيش وابن عيسى اسحق بولا في سلك الشرطة، والإثنان اشتهرا بأدائهم المتميز الذي رفع اسم القوش في الأماكن البعيدة التي خدما فيها، سادونا قضى فترة العسكرية في ارياف السليمانية وجبالها الشاهقة، حتى أوائل الثلاثينات حين تسرح من الجيش وهو برتبة رئيس عرفاء، فعاد الى القوش بعد ان جرى تكريمه وفتح دكاناً في سوقها.
مناطق سكن
في سنة 1933 عندما وقع الفرمان الظالم على الآشوريين في العراق فهاجوا وماجوا في مناطق سكناهم شمال العراق، وعندما ضاقت بهم السبل لجأوا الى القوش التي عبر التاريخ كانت تفتح ذراعيها لمن يستجير بها والقصة طويلة ومعروفة للقاصي والداني، وما يتعلق بسادونا فقد سمعت حادثة جديرة ان تدرج هنا، رواها لي عوديشو زورا بدي في مقابلة خاصة معه سنة 2008 اليكم ما قاله محدّثي عوديشو:
في أيام الفرمان، تواجد في سوق البلدة أحد القرويين فتقدم الى صاحب الدكان سادونا بطلب مكيالين من السكر (كلّا) فسأله عن ثمنها فقال سادونا: روبيتين (ما يعادل 150 فلساً) فقال الرجل: اعطيك روبية واحدة فقط فأجاب صاحب الدكان بان سعره روبيتين فأجابه القروي «أفضل لك لن تبيعه اليوم بروبية واحدة من ان تضطر غداً لبيعه مجاناً (ضمناً يلمّح بالأحداث المقبلة). غضب سادونا ولم يعجبه الكلام فصفعه على خدّه، في تلك الأثناء وصل سنحاريب بولا يستفسر عمّا يحدث فأخبره سادونا بالقصة، مما حدا بسنحاريب ان يصيح بصوت عالي «اين جوكا غزالة البطل» فتجمع الناس حول جوكا الذي امر كل القرويين من القرى المحيطة ان تترك السوق حالاً وإلّا ستتعرض الى عواقب وخيمة، وهكذا لم يمر وقت طويل حتى أصبح السوق خالياً من كل الغرباء. بتاريخ 6 كانون الثاني 1956 وقع حادث جلل قلب حياة العم سادونا رأساً على عقب، فقد غرق ولده رحيم الذي كان يعمل في مشروع سد دوكان، فوقع الخبر وقع الصاعقة ليس على بيته، بل القوش بأسرها. أتذكر وانا طفل صغير عندما كان والدي وعمي حبيب يعملان في ذلك السد، كنت اسأل والدي عن الحادث فيقول: كانت الشركة الفرنسة قد نصبت جسراً مؤقتاً لعبور مجرى الماء، في ذلك النهار شاءت الصدف ان يكون المرحوم رحيم مع عمال آخرين يعبرون ذلك الجسر، وعند وصولهم منتصفه انكسر وغرق في النهر، ويذكر الوالد انه رآى اجسام طافية فصاح بأعلى صوته: حبو، حبو أي انه صار ينادي باسم اخيه حبيب، وقد تهيأ ليرمي نفسه في الماء لانقاذه، فجاوب احد المشرفين على الغرق باللغة الكردية «اس براوي حبو» أي انا اخ لحبيب، فتراجع الوالد، ثم تبين فيما بعد بان احد الغرقى صديقهم رحيم فرافقوا جثمانه بحزن كبير الى القوش ومعهم آخرين من العاملين معه، فحزن الناس عليه وهو المولود عام 1922 والمتزوج بتاريخ 16- 4- 1944 من كتي حنا بنّا (1928- 2003).
ترك الحادث ألماً وحزناً في عائلة الفقيد وخصوصاً والده الذي شحذ كل امكانياته ليرعى تلك العائلة والأطفال الأربعة الصغار (عزيز، فكتوريا، أميرة، وجليلة) الذين تربّوا على يده ويد امهم الأصيلة، ونشأوا أحسن نشأة وأفضل تربية. بعد سنين قرر ابنه الآخر جميل المولود عام 1929 في أوائل الستينات ترك العراق الى المانيا ليعش فيها سنوات ويعود في حدود عام 1970 ومعه سيارة نوع فوكس واكن ثم تزوج من ناني ميخا خوبير بتاريخ 4 شباط 1972 وانجبوا عدد من الأولاد، وكانت لسادونا ابنة اسمها صلحة (1920- 2012) المتزوجة من يوسف كوكّي عام 1934 وكان الكاهن المكلل خال أمها القس فرنسيس حداد (1892- 1942) وابنة أخرى هي سعيدة (1932- 1985) التي كانت متزوجة من اندراوس ساكي اسمرو.
في البداية كان سادونا يسكن في البيت الذي سكنه الياس ميخا كَولّا جوار بيت بطرس كادو، ثم اشترى البيت الحالي الذي يسكنه هدير كوكّي من أولاد شابا كتو الذين تركوا القوش الى الموصل طلباً للرزق ومنهم اوراها كتو واسحق كتو. بيته الجديد الذي امتلكه عام 1953 تعب عليه كثيراً وحوله الى حصن جميل يشرف على الوادي والجهة الثانية الطريق المسفلت الذي يربط الموصل بناحية القوش، وكذلك عدد من البساتين المشيدة على الوادي المذكور الذي يمتلأ بالماء خصوصاً في فصل الربيع ويتصل ايضاً بمجرى عين ماء محلة قاشا، ولذلك حول المنحدر امام بيته الى مدرجات منتظمة لزراعة الخضراوات والبقول التي كانت تفيض عن حاجة العائلة ليبيعها في دكانه قرب سوق القصابين، وكلنا نتذكر ذلك البستان الجميل وكم من المرات ارسلني الاهل لشراء الخضراوات من بصل وسلق وكرنفس وغيرها. في الثلاثينات رسم شماساً وكان دائم الظهور في الكنيسة واتذكر في الستينات كان الانجيل يقرأ في عيد مار اسطيفانوس (استبانوس او تبّانو) بلغات مختلفة والشماس سادونا كان يقرأه باللغة الكردية التي كان يتقنها جيداً، فيما يقرأ بيبي تولا الانجيل بالتركية، وميا اسمرو بالهندية. في عام 1948 اختير مختاراً لمحلة التحتاني، فشمر عن ساعديه الجد ليعمل بكل تفاني وإخلاص لخدمة القوش، وكذلك التوفيق بين الإشكالات والارهاصات التي تحدث بين المواطنين والسلطة الحاكمة التي يرأسها مدير الناحية واشهرهم في تلك الفترة عثمان احمد الجليلي عام 1952. اعقب افراح الناس وابتهاجها بثورة 14 تموز، وقوع الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963 فاصبحت القوش في وضع لا يحسد عليها، وشُنت حملات الاعتقالات الواسعة، بلغت اوجها عندما اعتقل احد الشباب في مركز الشرطة، فهب زملائه لقطع الطريق واسلاك التلفون تمهيداً للهجوم على المركز وتحريره.
كان يقودهم الشهيد فؤاد شمعون ديشا وبيده رشاش بور سعيد، هنا نزل المختار سادونا الى حيث الشباب الثائرين، وتكلم معهم بالحكمة والدراية بان هذا الفعل سيعقبه مشاكل للبلدة لا تحمد عقباها، ولم ينصتوا الى كلامه بل واصلوا المهمة فرجع خائباً الى بيته، ثم تصاعدت الحملات على القوش خصوصاً في حزيران عام 1963، حيث قدِم الفرسان (الجحوش) الذين كانوا بقيادة معاوية إسماعيل جول، وجمعوا رجال البلدة الذين وقعوا بيدهم من البيوت او السوق او الشوارع، وساقوهم الى مركز الشرطة في اعلى البلدة، هناك هجم عليهم الجلادون بالعصي والخيزرانات ليضربوهم ويعذبوهم بشدة ومنهم المختار سادونا بولا الذي اقتيد من بيته مذلولاً ولم يسعفه القول بانه مختار، ضربوه حتى كلّت أيديهم فأصيب بآلام مبرحة تركت اثرا قويا على جسمه، ومن الذين تعرضوا للضرب معه نذكر بعض الأسماء وعذرا على نسيان أخرى: صادق خوبير، إبراهيم حيدو، غريبو حيدو، الياس جيقا، نونو جولاغ، يلدا بوداغ، متيكا عوصجي.
بعد تلك الحادثة اصبح سادونا يرفع العرائض للتخلي عن مهمة المختارية، وكان مدير الناحية ناظم عبد الحميد الحليم للفترة من (1964- 1965) يتمسك به ويشجعه على البقاء، وفي احد الأيام كلفه بمهمة الى الشيخان مركز القائمقامية التي كانت ناحية القوش تابعه لها، فأجر سيارة لاندروفر التي سائقها بحو كجوجا ويعاونه منصوري بَشّي، انجز المختار مهمته وعند عودتهم تعطلت السيارة في الطريق واستطاعوا بعد جهد إصلاحها لتصل الى وادي عميق بين الجراحية وبيبان، وقد اقتربت الشمس من المغيب، وفجأة ظهر امامهم رجل مسلح بالبندقية وصفوف الرصاص والمسدس والدوربين وهو شاهر سلاحه ويؤشر عليهم بالتوقف، أراد السائق المواصلة فأسرع، هنا صاح عليه المختار بشدة ان يتوقف فتوقف، قال لهم اعطوني ما عندكم، قال له سادونا انهم لايمتلكون في جيوبهم سوى دريهمات ، فقال وهو يشتم ويطلب نزولهم من السيارة فنزلوا وسلاحه مستعد للرمي واخرج قداحة النار ليقول « اف ترمبيل دي سوطم.... أي سأحرق السيارة» وهو يشتّم الرجال فخاف السائق وقال (لبخت خودي.... بخت الله) وسادونا يستعد وهو مدرب جيدا في الجيش لمثل هذه الحالات وامام شاب عشريني بدت لهجته بانه من عشائر الزيدكية، فسايسه وهو يجيد الكردية كما ذكرنا بطلاقة، وفجأة وهو القوي المتمكن القى نفسه بسرعة خاطفة عليه وانتشل بندقيته، ثم طرحه ارضاً هنا اخذ السائق بحو حجراً ورماه عليه فوقع على أرجله فاوقفه سادونا في الحال، ثم امر قاطع الطريق ان يكمل نزع معداته العسكرية فنزعها كاملة وأطلقه ليركض كالغزال في ذلك الوادي. كانت خشية المختار ان يكون معه جماعة، حينئذ لن يستطيعوا الخروج سالمين من الكمين، فتوكلوا على الله ومضت بهم سيارتهم لا تلوي على شيء، حتى وصولهم القوش فسلّم كل تلك المعدات الى مدير الناحية الذي استحسن عمله البطولي، وبعد يومين جاء الياس حنو وموسى خمو الى بيت سادونا لإرجاع سلاح الرجل الذي قالوا انه يتبع صالح نرمو، فقال لقد سلمتها الى مركز شرطة القوش، وانتهى الحادث الذي لم يكن في البال النجاة منه بفضل شجاعة سادونا وحكمته.
الخاتمة:
خرج من المختارية وواصل العمل في الدكان والبستان وادّى واجبه على أكمل وجه شماساً في الكنيسة، ثم تركت الاسرة في السبعينات القوش الى بغداد وبيع البيت الى ابنته صلحة (سحّة كَاني) والدكان الذي شغله بعده يلدا الياس بوداغ. وهناك في بغداد قضى سادونا شيخوخته في رعاية الاهل، الى ان وافاه الأجل بتاريخ 1- 2- 1988، ألف رحمة على روح العم سادونا اسطيفان بولا أحد وجهاء البلدة.
المصادر:
1- عوديشو زورا بدي
2- ناظم سنحاريب بولا
nabeeldamman@hotmail.com
California on October 10, 2025