الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الطعن بالشرف .. جريمة لا تغتفر

بواسطة azzaman

الطعن بالشرف .. جريمة لا تغتفر

ماهر نصرت

 

في المجتمعات التي يغلب عليها الطابع العشائري التي تـتشبث بقيم الكرامة والشرف كأنها أثمن من الروح ، يصبح الحديث عن العِرض أكثر خطراً من أي سلاح ، فالكلمة هنا قد تذبح أسرع من السكين والنظرة قد تحفر في القلب جرحاً لا يندمل والإشاعة قد تتحول إلى لعنة تلاحق الإنسان وأهله مدى الحياة حتى وإن لم يكن لهم ذنب ولا خطيئة، فتحتل قيمة الشرف موقعاً مقدساً في وجدان الناس، لكنها في الوقت ذاته أصبحت عرضة للابتذال والتشويه عبر فوضى الكلام وسقوط الضمائر وتحوّل المجتمع إلى محكمة متنقلة تحكم بالإعدام المعنوي من دون دليل أو رحمة أو تثبّت مجرد حديث ملفق من هنا وهناك ، كل فرد في هذا البلد مهدد بأن يكون ضحية إشاعة مغرضة تنطلق من فم مريض النفس أو حاقد أو منافق أو لديه خدش في جانب ما من حياته ، وتتحول الاشاعة بسرعة جنونية إلى قصة تُروى في الجلسات والهواتف والصفحات وتنتشر كأنها حقيقة أُنزلت من السماء .

لا أحد آمن في هذا المناخ الموبوء بالافتراء، فأي خيط ضعيف كخيط العنكبوت يمكن أن يُنسج عليه ثوب من التهم الملفقة ، أي تصرف بسيط قد يُفسر بغير معناه ، أي علاقة عابرة قد تُضخَّم لتصبح فاحشة، وأي ماض قد يُبعث من سباته ليتحول إلى سيف مسموم يوضع على رقبة الأبرياء  .

نية مبيتة

لا يحتاج الناس إلى يقين كي يصدقوا، بل يكفي أن تُقال كلمة من فم شخص يلبس قناع الوقار، فيُبنى عليها خيال كامل وتُنسج روايات ويبدأ الناس بإضافة تفاصيل لا أصل لها ويضيفون على الكذبة بيتاً من الشعر وبيتاً من النار، وما إن تبدأ الحكاية حتى يتسابق المجتمع إلى جلد الضحية بدلًا من أن يتحقق أو ينصف أو يصمت على الأقل ، وكأن الناس يستلذون باجترار الفضيحة ونقلها وتلوينها ، متناسين أن  يأتي الدور عليهم في لحظة ، فالذين يطعنون اليوم قد يكونون ضحايا غداً.

الكارثة ليست فقط في الكذب بل في النية المبيتة خلفه ، فهناك من يبحث عن فريسة ليغطي بها عاره ، وهناك من يحاول دفن مشكلته بفضيحة غيره ، وهناك من ينفث سمه لأنه يرى الناس في حالة سلام داخلي لا يملكها هو ، المجتمع مليء بمن يعانون من خيباتهم الداخلية ، ممن ارتكبوا في الماضي أو يعانون من شوائب حاضرة في شرفهم أو سلوكهم فيلجؤون إلى تغطية تلك العيوب بزرع الأوهام في حياة الآخرين  بعضهم يحاول إشراك الأبرياء في مستنقعه ليتساوى الجميع في السقوط ، فيشعر براحة كاذبة أذا أحداً غيره أصبح محل الاتهام ، هذه ليست فقط جريمة نفسية أو سلوكاً منحرفاً بل هي خيانة لقيمة إنسانية عُليا ، خيانة لأبسط مبادئ الدين الذي أمر بالتثبت ونهى عن القذف وحذر من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين .

في عيون الدين القذف بلا بينة كبيرة من الكبائر ، حدها في الدنيا الجلد في بداية عصر الاسلام ، أما اليوم فهو السجن ، وعقابها في الآخرة أعظم ، وقد قال الله تعالى ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم )  ومع ذلك ، كم من مرة سمعنا إشاعة تطعن في بنت أو امرأة أو شاب ، ولم يحرك الناس ساكناً ، بل ساهموا في نشرها وكأنهم يؤدون واجباً أخلاقياً ، وهم في الحقيقة يقتلون نفساً دون سكين ، الضحية في هذه القصة لا تخسر فقط سمعتها ، بل تخسر حياتها بأكملها ، من الثقة بالنفس ، إلى الأمان في بيتها ، إلى احترامها في محيطها ، وقد يصل بها الحال إلى الانتحار أو العزلة التامة أو الانهيار النفسي ، وكل ذلك من كلمة قالها أحدهم وهو يحتسي الشاي دون أن يشعر بثقل ما ينطق به لسانه.

غلطة لسان

ما يثير القهر أن القانون في معظم الحالات إما غائب أو ضعيف أو يتعامل مع الجريمة الكلامية كأنها شجار بسيط أو غلطة لسان ، بينما الطعن في العرض أخطر من الطعن بالسلاح ، لأنه يبقى ندبته في القلب والذاكرة .

 من حق الإنسان أن تُصان كرامته من التلفيق ، وأن يلقى من طعنه جزاءاً عادلاً بأقصى عقوبة من القانون  ،  لماذا لا يُعاقَب من يفتري على الأعراض بالسجن المشدد أو الغرامة بعشرات الملايين ؟ لماذا لا يكون القذف غير المثبت كجريمة القتل مع سبق الإصرار؟

 بل لماذا لا تُشهر فضيحة الكاذب نفسه ويُمنع من ممارسة حياته العادية كما حطم حياة غيره ؟ إن السكوت على هذه الألسنة المسمومة يعني فتح الباب لكل تافه أو حاقد أن ينال من الناس دون رادع .

ثم ماذا عن الأبرياء الذين لم ينصفهم أحد ؟ من يعيد لهم اعتبارهم ؟ من يعوضهم عن نظرات الناس ، عن دموع الأمهات ، عن خوف الآباء ، عن انكسار الشباب ، عن خجل الأخوات ؟ المجتمع لا يملك آلية للمصالحة مع الضحايا ، بل يكتفي بالصمت إن ثبتت براءتهم  ولا يعيد لهم ما سُرق منهم من طمأنينة ، هذا الصمت ليس حياداً بل جريمة أخرى ، لأن من لا يرد الظلم عن البريء ، شريك في الجريمة ولو بصمته .

 لا يجوز أن يستمر المجتمع في كونه حلبة مفتوحة لكل من يشاء أن ينهش أعراض الناس ، وأن يستسهل الناس الخوض في أعراض الآخرين كما لو كانوا يتحدثون عن أسعار الخضار أو حالة الطقس .

هناك لحظة يجب أن نتوقف فيها جميعاً ونتأمل حجم الخسائر التي تسببها الشائعة ونتساءل  ،  كم من فتاة عاشت حياة حزينة لأنها وُصمت بشيء لم تفعله ؟

كم من شاب هاجر لأن الناس لم تعد تنظر إليه إلا بعين الشك ؟

كم من أم ماتت قهراً ؟ كم من عائلة تشتتت ؟ كم من مستقبل تحطم ؟ كم من حلم انهار بسبب كلمة ؟ إنها ليست مجرد إشاعة بل زلزال أخلاقي يفتك بالبشر من الداخل.

 دون أن تُسمع لهم صرخة أو يُرفع لهم نداء ، يجب أن نفهم أن الكلمة قد تكون طعناً قاتلاً ، وأن ( الحديث البسيط ) الذي يدور في المجالس يمكن أن يُدمّر حياة شخص أو أسرة كاملة .

المجتمع العربي بموروثه العشائري والديني ، يعرف جيداً  قيمة العِرض ، ويجب أن يُعيد التوازن بين الحفاظ عليه وحماية الأبرياء .

أن الشرف أيها الاخوة ليس ساحة مفتوحة للنقاش أو التلاعب ، بل يجب أن يكون مصوناً بالدين محروساً بالقانون  محترماً بالعرف السليم  لا بألسنة الناس .

 يجب أن ينهض الوعي المجتمعي ويوقف هذا النزيف الأخلاقي قبل أن يزداد الطعن وتغيب الثقة  وتصبح الأعراض سلعة بين يدي الحاقدين ، لا شرف لمجتمع يتلذذ بذبح الأبرياء ، ولا كرامة لإنسان لا يدافع عن الحقيقة حين تُداس تحت أقدام الكذب .


مشاهدات 50
الكاتب ماهر نصرت
أضيف 2025/10/22 - 3:59 PM
آخر تحديث 2025/10/23 - 4:06 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 132 الشهر 15371 الكلي 12155226
الوقت الآن
الخميس 2025/10/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير