دجلة يخطف حسين والعراق كله على ضفاف الإنتظار
علي الحارس
قبل أسبوع، سقط شاب في نهر دجلة، من منطقة الكريعات ببغداد اسمه حسين من مدينة السماوة، لكنه اليوم ابن العراق كله.
لم يظهــــــــــر بعد، والماء الذي ابتلعه ما زال يصــــمت، وكأنّه يحمل في أعماقه سِرّاً لا يُباح.
على ضفاف النهر، أمٌ نحلت ملامحها من البكاء، تشهق وتنوح:
(يمّه أريد وليدي).
كلماتها ليست مجرد نداء، بل نزيفٌ من قلبٍ مكسور، ما عادت عيناه تعرفان النوم، ولا فمه يعرف طعم الزاد.
الأب، ساكن كالجبل، لكنه في داخله ينهار كل لحظة.
يسند كتفه على احد اقربائه، وربما يتمنى لو يقتلع نفسه ويرمي بها في الماء، عساه يلاقي ولده ولو لحظة.. لكن حسين ليس وحده.
حصلوا على أربعة أرواح صعدت إلى السماء في رحلة البحث عنه، في كل واحد منهم وطن، وفي كل دمعة سالت، عراقٌ يتجدد من رحم الفاجعة.
من السماوة جاء حسين، لكن الأعظمية فتحت قلبها له.
لم تسأل عن طائفة، ولا عن مذهب، ولا عن لون أو لهجة. فقط قالت: أهلاً بكم، هذا ابننا أيضًا.
تدفقت البيوت، الطعام، الأغطية، والقلوب... كأن العراق كله جاء ليتعزى مع والدة حسين، وليبكي معها..
وفي أقصى الغرب، من الأنبار، كان هناك غواص، ابن ماءٍ ونار.
وقف أمام الكاميرا، عيناه مبللتان، وصوته مبحوح من صمتٍ طويل، وهو يتحدث عن والدة حسين.
قال: والله يا أخي، قلبي تقطع وأنا أسمعها تصيح: يمّه أريد وليدي...
فتهاوت الأرواح، ولم تعد الشاشات تتسع لكل هذه الدموع.
هكذا هو العراق، حين تشتد عليه المِحن، يُخرج أنبل ما فيه.
تذكّر الناس عثمان العبيدي، ذلك الفتى الذي قفز في النهر لينقذ أطفالاً من طائفة غير طائفته، ومات شهيدًا للإنسانية، لا للمذهب.
وها هو حسين يعيد ذات اللحظة، ليجمع العراقيين مرةً أخرى، ليس على مائدة السياسة، بل على قارعة القلب.
نهر دجلة، الذي كان يومًا مهدًا للحضارات، صار اليوم قبرًا مفتوحًا لحكاية حزن عراقي جديد.
لكن الوطن لم يمت، لأن دموعه ما زالت دافئة، وقلوبه تنبض رغم الألم.
يا حسين، إن لم يردك الماء، فالله لا يضيع عباده.
وإن طال الانتظار، فدعاء أمك قد شقّ عنان السماء، وجعل من كل قلب عراقي مأواك.
سلامٌ عليك يا ابن السماوة،
وسلامٌ على كل من غاص في الماء من اجلك،
وسلامٌ على العراق حين يتوحد على وجع،
فلا يصبح فيه للدموع مذهب،
ولا للجنازات لون،
بل كلنا... نبكيك كما لو كنتَ ابننا جميعًا.