الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإعلامُ في زمنِ الحربِ السيبرانية.. بين التوعيةِ والتضليل

بواسطة azzaman

الإعلامُ في زمنِ الحربِ السيبرانية.. بين التوعيةِ والتضليل

عصام البرّام

 

في عالم يتسارع فيه تطور التكنولوجيا بوتيرة غير مسبوقة، أصبحت الحروب لم تعد تُخاض فقط بالسلاح والجنود على الجبهات، بل باتت تُخاض أيضًا عبر الأسلاك والأقمار الاصطناعية والشبكات العنكبوتية، لتدخل البشرية عصرًا جديدًا من الحروب تُعرف بالحروب السيبرانية. في هذا المشهد المترامي الأطراف والمتشابك الخيوط، برز الإعلام كعنصر مركزي في إدارة هذه المعارك، ليس فقط كوسيلة نقل للأخبار والمعلومات، بل كفاعل مباشر في صياغة الوعي الجماعي وتوجيه الرأي العام، ما جعله سلاحًا ذا حدين، يتأرجح بين مهمته الجوهرية في التوعية وخطر انزلاقه في دوامة التضليل.

السيبرانية وآستهداف العقول

وتعد الحرب السيبرانية من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات والدول اليوم، نظرًا لقدرتها على اختراق الحواجز الجغرافية وتجاوز الأنظمة الدفاعية التقليدية، واستهداف البنى التحتية والمعلوماتية والمؤسسات الحيوية. ومن أبرز أسلحتها ما يُعرف بحروب المعلومات، التي تُخاض فيها المعركة عبر الفضاء الرقمي، حيث تُنشر الأخبار الكاذبة وتُفبرك الحقائق وتُبث الإشاعات بشكل مكثف وموجه، بهدف زرع الشك وزعزعة الثقة وإحداث شرخ داخل المجتمعات. في هذا السياق، يلعب الإعلام دورًا محوريًا لا يمكن الاستهانة به، سواء في صدّ هذا الهجوم المعلوماتي أو في تضخيمه عن غير قصد، أو أحيانًا بقصد، في ظل غياب الضوابط الأخلاقية أو ضعف المهنية الصحفية أو حتى خضوع بعض المنصات لجهات خارجية تحركها أجندات سياسية وأمنية. وتكمن خطورة التضليل الإعلامي في زمن الحرب السيبرانية في أنه لا يستهدف فقط العقول بل المشاعر، حيث تُبنى الروايات الكاذبة على عناصر الإثارة والصدمة والعاطفة، مما يجعلها أكثر انتشارًا وقبولًا لدى الجمهور مقارنة بالمعلومات الدقيقة التي قد تبدو مملة أو معقدة.

بين المواجهة وتطوير أدوات المؤسسة الإعلامية

وهنا تبرز تحديات كبرى أمام الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، من حيث قدرتهم على التحقق من صحة المعلومات وسط هذا الفيضان الرقمي، وضرورة تطوير أدوات تحليلية وتقنية تتيح لهم التفريق بين الخبر الحقيقي والمزيف، وبين المعلومة الموضوعية والدعاية المضللة. ومن جهة أخرى، يُفترض بالإعلام أن يكون خط الدفاع الأول في معركة الوعي، من خلال نشر الثقافة الرقمية والتوعية بأساليب التضليل وكيفية التعرف عليها ومواجهتها، وتقديم محتوى رصين وموثوق يستند إلى مصادر معروفة ويُعرض بلغة واضحة تُشرك المتلقي في عملية الفهم والتحليل بدل أن تدفعه إلى التلقي السلبي. غير أن هذا الدور التوعوي يتطلب استقلالًا حقيقيًا وشفافية عالية في العمل الإعلامي، وهو ما لا يتوفر دائمًا، خاصة في الأنظمة التي تستغل الإعلام كأداة للدعاية الداخلية أو الخارجية، فتنخرط بدورها في حرب المعلومات، مستخدمة وسائلها لنشر سرديات معينة تخدم مواقفها السياسية، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة والمهنية. وفي ظل هذا الواقع المعقد، تصبح الحدود بين الإعلام والتضليل ضبابية، ويصعب أحيانًا على الجمهور العادي التمييز بين الإعلام الذي يسعى إلى الإخبار والتثقيف، وبين الإعلام الذي يسعى إلى التلاعب والتجييش. فحتى المنصات التي تحظى بسمعة مهنية قد تسقط أحيانًا في فخ السرعة على حساب الدقة، أو تتأثر بميول أيديولوجية لملاكها أو مموليها، فتفقد حيادها وتتحول إلى طرف في الصراع بدل أن تكون ناقلًا أمينًا لما يحدث.

كما أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا متزايدًا في تضخيم هذا الإشكال، حيث باتت المنصات الكبرى مثل فيسبوك وتويتر وتيك توك ساحات مفتوحة للحروب السيبرانية، تنتشر فيها الأخبار الكاذبة بسرعة البرق، وتُضخ فيها محتويات مضللة عبر حسابات وهمية أو روبوتات برمجية أو حتى عبر مؤثرين حقيقيين يتم توظيفهم لتحقيق أهداف محددة. وفي كثير من الحالات، يتعذر الوصول إلى مصدر الخبر الأصلي أو معرفة الجهة التي تقف خلفه، ما يجعل من مهمة التحقق تحديًا مستمرًا، حتى بالنسبة للمؤسسات الإعلامية الكبرى.

وهذا يفتح المجال أمام ظاهرة ما يُعرف بـ(ما بعد الحقيقة)، حيث لم تعد أهمية المعلومة تُقاس بمدى صحتها بقدر ما تُقاس بمدى تأثيرها، وهو ما يقوض جوهر العمل الصحفي ويهدد البناء المعرفي للمجتمع. وفي المقابل، لا بد من الإشارة إلى أن بعض الجهات الإعلامية والمبادرات الصحفية حول العالم بدأت تدرك خطورة الموقف، وسعت إلى تطوير منصات للتحقق من الأخبار، وتعزيز مهارات التفكير النقدي لدى الجمهور، وإنتاج محتوى توعوي يشرح بأسلوب بسيط كيفية عمل الخوارزميات التي توجه المحتوى، وكيفية استخدام مصادر متعددة لتكوين فهم أكثر توازنًا للأحداث. كما بدأت بعض الدول والمؤسسات التربوية بإدخال برامج (التربية الإعلامية) إلى مناهجها التعليمية، بهدف تمكين الأجيال الجديدة من فهم آليات صناعة الخبر، والتعامل الواعي مع المحتوى الرقمي، وتجنب الوقوع في فخاخ الدعاية والتضليل.

الوعي الإعلامي والحروب الحديثة

ومع ذلك، تظل هذه الجهود متواضعة أمام حجم التحديات واتساع نطاق الهجمات السيبرانية، التي غالبًا ما تكون مدعومة بموارد مالية وتقنية هائلة، ما يجعل من الضروري تعزيز التعاون بين الحكومات، والمنصات الرقمية، والمؤسسات الإعلامية، ومراكز الأبحاث، والمجتمع المدني، من أجل بناء جبهة موحدة في وجه هذه الحروب الجديدة. وفي هذا الصراع المفتوح، تبرز الحاجة الملحة إلى استعادة الثقة بالإعلام، ليس فقط من خلال رفع معايير الشفافية والمساءلة داخل المؤسسات الإعلامية، بل أيضًا من خلال تعزيز العلاقة مع الجمهور، عبر تشجيعه على المشاركة في صياغة الخطاب الإعلامي، واعتباره شريكًا في البحث عن الحقيقة، لا مجرد متلقٍ سلبي. إذ إن الإعلام لم يعد مجرد مرآة تعكس الواقع، بل أصبح صانعًا للواقع ذاته، ولهذا فإن مسؤوليته في زمن الحرب السيبرانية مضاعفة، فهو يقف في مفترق طرق بين أداء رسالته التنويرية، والانزلاق في مستنقع التضليل والتهويل. إن ما نواجهه اليوم ليس فقط حربًا على المعلومات، بل حربًا على الإدراك ذاته، على ما نؤمن به ونفهمه ونشعر به، وفي مثل هذا السياق يصبح الإعلام النزيه القائم على التحقق والدقة والمسؤولية الأخلاقية هو الحصن الأخير في معركة العقل، وهو السد المنيع في وجه الفوضى المعلوماتية، وهو الخط الدفاعي الذي إن أنهار، أنهارت معه قدرة المجتمعات على التماسك والصمود.

لذا فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس فقط كيف نحمي الإعلام من التضليل، بل كيف نُعيد إليه دوره الحيوي كمنارة للوعي في زمن طغت فيه الضوضاء على الحقيقة، وغابت فيه الحدود بين ما هو واقعي وما هو مفبرك، وبين ما يُقال من أجل المعرفة وما يُقال من أجل السيطرة، وبين الإعلام الذي يُنير الطريق، والإعلام الذي يُخفيه.

 


مشاهدات 35
أضيف 2025/10/22 - 2:39 PM
آخر تحديث 2025/10/23 - 1:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 59 الشهر 15298 الكلي 12155153
الوقت الآن
الخميس 2025/10/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير