الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قِربة قمر بني هاشم

بواسطة azzaman

قِربة قمر بني هاشم

خالد قنديل

 

ابنائي الحسين والحسن، اجلسا أمامي الآن، كقلبين صغيرين أضع فيهما ما بقي من يقيني..

في هذا العالم المليء بالضوء، لم يعد الناس يبحثون عن الحقيقة بل عن صورةٍ واضحة لأنفسهم، نحن نعيش اليوم في مدينة من الزجاج: كل ما فيها مصقول، ظاهر، لامع، لكنه هش، جدرانها شفافة، لكن القلوب داخلها مغلقة، الناس فيها لا ينظرون إلى بعضهم البعض، بل ينظر كل واحد إلى نفسه عبر الآخر؛ الآخر ليس إنسانًا، بل مرآة متحركة تُظهرني، تُقارنني، تُقومني، وهكذا أصبح الإنسان، دون أن يشعر، عبدًا لانعكاسه.

في هذه المدينة، الأهمية لا تُمنح لمن يعطي، بل لمن يظهر، الضوء ليس هداية، بل شهرة، والكلمة لا تُقاس بصدقها، بل بعدد من يصفق لها، هكذا وُلدت “أنا” جديدة: أنا تنتعش على التوثيق لا على الفعل، أنا تقيس النجاح بعدد المشاهدات، لا بعدد القلوب التي شُفيت، والسؤال الحقيقي: متى أصبحت الذاتُ صنمًا؟، متى صارت النجاةُ مشروطةً بأن يتأخر الآخر، ويظهر “أنا” أولًا؟، هل يمكن لحياةٍ تُبنى على هذا التمركز حول الذات أن تنتج إنسانًا؟، وهل بقي من المعنى شيء، حين صار كل شيء وسيلة لتضخيم “الذات”؟.

في هذا الزحام المصنوع من الانعكاسات، تتضح قيمة أولئك الذين لم يظهروا، أولئك الذين كانوا يملكون أن ينجوا بأنفسهم، لكنهم اختاروا أن ينجو غيرهم. وفي قمة هذا المعنى، يقف رجل اسمه العباس بن علي بن أبي طالب، أخي الإمام الحسين عليه السلام، وأحد أبرز رجالات كربلاء في معركة الطف، القمر الهاشمي، الذي سار نحو الماء ولم يشرب، الذي قُطعت يداه ولم يطلب شهرة، الذي فَقَد كل شيء لكنه أنقذ صورة الإنسان، في زمنٍ تصعد فيه “الأنا” على أكتاف الجميع، العباس لم يقل “أنا” يومًا، بل كان هو، الضد الكامل لهذه المدينة الشفافة والمجوفة.

لم يكن أبو الفضل يسير خلف الحسين كأخٍ صغير يتبع أخيه الكبير، ولا كجندي مأخوذ بكاريزما قائده، كان يتبعه كما يتبع الماءُ مجراه، وكما يتبع الضوءُ منبعه، لم تكن علاقته بالحسين علاقة دمٍ فقط، بل كانت علاقة يقينٍ متجذرٍ في المعنى، يقين بأن هذا الرجل، هذا “الحسين”، لا يُمثل نفسه، بل يُمثل النور حين يمشي على الأرض. في كربلاء، لم يكن العباس نسخة مصغرة من أخيه، بل كان امتدادًا له في الجسد والنية والفعل، لم يُلغِ ذاته، لكنه جعلها جسرًا يعبر منه الحسين نحو رسالته، لم يكن تابعًا، بل كان المجلى الذي انسكب فيه النور حتى انمحى فيه الشكل، وبقي الوهج، “فالفناء في المحبوب لا يعني الذوبان السلبي، بل تجاوز الذات دون إنكارها”، هو أن تُحيل وجودك إلى صدى، لا لضعف، بل لأن الأصل أبهى من الصدى، وأنفع، وأوضح، العباس لم يُذِب نفسه في الحسين لأنه لا يملك هوية، بل لأنه اختار عن وعي أن يجعل حبه طريقًا للفعل، لا زينةً للعاطفة، أن تمشي خلف من تحب حين تكون قادرًا على أن تقود تلك منزلة، لكن أن تمشي خلفه وأنت تعرف أنك ستموت، دون أن يُذكرك أحد، وأنت تملك القوة والشجاعة والإرث والهيبة تلك منزلة أخرى، منزلة العباس.

الحب حين يختبر في لحظة المصير، إما أن يتحول إلى تمسك، إلى رجاء شخصي، إلى محاولة نجاة، وإما أن يتحول إلى امتثال حر، فيه كل الرضى، دون خوف، دون طلب، دون مقابل، هكذا أحب العباس الحسين: لا كمن يتعلق بمن يمنحه الحماية، بل كمن يطمئن لأن وجوده صار جزءًا من فكرة أكبر منه، فكرة لا تحتاج إلى صورة، بل إلى كفين تُحمل بهما ولو قُطعت.

رمز الحياة

عند نهر الفرات، لم يكن العباس يقف أمام الماء، بل أمام أقصى اختبارات الروح، كان العطش يملأ جسده، والحرارة تشتد، والنبض يتصاعد، وكان الماء أمامه، حاضرًا، ممكنًا، مباحًا، لا أحد يمنعه هذه اللحظة من أن يروي نفسه، لكنه لم يفعل. لأن الماء، في تلك اللحظة، لم يكن ماءً. كان رمزًا للحياة حين تناديك لنفسك فقط، كان تجليًا للشهوة الشرعية التي تصير اختبارًا حين تختلط بالأنا: هل تأخذ لأنك قادر؟ أم تمسك لأنك أسمى من الحاجة؟، الماء وقد صار على مرمى كفه لم يعد سائلًا، بل مرآة، رأى فيها صورته، ورأى خلفها وجوه الأطفال في الخيام، شفاه الصغار اليابسة، ونظرة الحسين المتعبة، فرمى الماء.

ليس لأن العطش لم يكن حقيقيًا، بل لأنه أدرك أن العطش لا يُروى بالجسد وحده، الجسد يطلب، لكن الروح أحيانًا تُعلق رغباتها على مشجب الوفاء، وترتفع تلك اللحظة حيث امتدت يده إلى النهر، ثم تراجعت ، هي اللحظة التي انتصر فيها الإيثار على الأنا، لأن أعظم درجات التزكية أن تملك الشيء، لكن لا تأخذه، أن تعرف أنه لك، ثم تقول: ليس لي وحدي، ويا لها من مفارقة، كم مرة في حاضرنا نشرب، بينما من حولنا يموتون؟، كم مرة نحمل القِربة، فنرتوي بها لأنفسنا، ثم نعود ونخبرهم أننا “حاولنا”؟، كم مرة خان الإنسان القِربة التي وُضعت في عنقه لأجل غيره، فجعلها وسيلةً للذات بدل أن تكون عهداً للآخر؟، العباس لم يكن عطشانًا فقط، بل كان واعيًا لكيفية العطش، العطش الذي يجعلك ترى نفسك، وتُقرر أن تتجاوزها، وهنا، في هذا التراجع عن الماء، تحقق فعليًا المعنى الكامل للإيثار: أن تُمسك عن نفسك ما هو متاح، لكي لا يموت غيرك بفقدانك.حين رُفعت السيوف على العباس، لم تكن تستهدف جسده فحسب، بل كانت تضرب ما ظنه الناس شرطًا للقدرة: اليد. لكن العباس، حين سقطت كفاه، لم يسقط معها. لم يتوقف، لم ينكسر. بل تابع السير، حاملاً القِربة بكتفيه، بصدره، بعزمه، كأن الفعل لا يحتاج أداة إذا كان المعنى حاضرًا. كانت يداه وسيلة، نعم، لكنها لم تكن الهوية. هويته كانت في النية، وفي النية لا تُقاس القدرة بما تملكه، بل بما أنت مستعد أن تفقده دون أن تفقد ذاتك. في منطق الوجود، الإنسان يُعرف غالبًا بما يملك: يده، صوته، قوته، أثره. لكن في لحظة بطل العلقمي، كل هذا يتبدد، وتبقى الكرامة كفعل مستقل عن الجسد. وما عادت اليد وسيلة للبطولة، بل صار الفقد نفسه صوتًا أعلى من كل انتصار جسدي. هنا تتجلى المفارقة حين يخلع الصوفي نعله على باب الحضرة، لا لأنه محتقرٌ له، بل لأنه لا يريد أن يدخل بشيء من ذاته. كأن العباس، حين قُطعت يداه، كان يتهيأ للدخول إلى مقامٍ آخر، لا يُسمح فيه باليدين، بل بالقلب وحده. السؤال الصعب، الذي نخاف النظر إليه عادة: هل الخسارة دائمًا سقوط؟، أم أن بعض الخسائر تُعيد تعريفنا؟، هل الألم دائمًا عذاب؟، أم أن بعض الألم هو باب نقي، تُغسل فيه آخر بقايا التعلق بالذات؟، قمر بني هاشم حين فقد كفيه، لم يُصبح أقل شأنًا، بل صار أصدق صورة للفعل النقي، الذي لا يستند إلى القوة، بل إلى المعنى. وهكذا، حين عاد جسده دون يدين، عاد إنسانًا تجرد من الحاجة، وصعد بمعناه إلى ما هو أعلى من البطولة: الإيثار الكامل، حيث لا شيء يُمنَح إلا وقد فُقِد.

نعيش في زمن لا يُكافئ من يؤثر، بل من يُظهر. في زمنٍ تتقدم فيه “الأنا” على كل القيم، وتتحول المبادئ إلى شعارات، والنيات إلى علامات تجارية، تتراجع المعاني التي لا تُرى، لصالح الصور التي تُجمع الإعجابات. في هذا العالم، لا أحد يسأل: من ضحى؟، بل الجميع يسأل: من ظهر؟، لا أحد يُكافأ لأنه حمل القِربة للآخرين، بل يُكافأ من قال إنه فعل، ولو لم يبلل إصبعه بالماء. في هذا الزمن، الأيدي لا تُقطع كما قُطعت يد العباس، لكنها تُمسَكُ بخدر الرغبة، بشهوة الاستحواذ، بفكرة أنني أولًا، ولو على حساب الجميع. وما أكثر القِرَب التي يُفترض أن نُوصلها للآخرين، لكننا نفتحها على جانب الطريق، ونرتوي وحدنا، ثم نكمل السير بوجهٍ متعبٍ نقول إنه تعب الإيثار. بطل العلقمي، في لحظته المفصلية، لم يختر ذاته، رغم امتلاكه لها بالكامل. لم يكن مجبورًا على الطاعة، ولا مقهورًا على التضحية. بل كان واعيًا تمامًا أن بإمكانه أن ينجو، لكنه اختار أن يكون جسرًا يعبر عليه الآخرون نحو الحياة. إنه ليس نموذجًا أخلاقيًا عابرًا، بل نظرية كاملة مضادة لما نعيشه الآن.

الصمت العظيم

نظرية تقول: “أنت لا تُقاس بما تُظهره، بل بما تمسك عنه، بما تُخفيه في نيتك، بما تقدر عليه ثم لا تأخذه.» في زمنٍ يعلو فيه صوت “أنا”، أبو الفضل هو الصمت العظيم الذي يفعل ولا يقول، الذي يمنح ولا ينتظر أن يُقال اسمه، الذي يموت ليبقى المعنى حيًا. هو ليس ذكرى، بل دعوة مفتوحة، لكل من تعب من تسويق الذات، واشتاق أن يكون إنسانًا حقيقيًا، حتى لو لم يصفق له أحد.

يا الحسين،

يا الحسن،

إذا خُيرتم يومًا بين أن تكونوا أول من يشرب..

أو آخر من يحمل القِربة لغيره..

فاختاروا القِربة..

حتى وإن لم يبقَ منكم شيء..

سيبقى فيكم الإنسان..


مشاهدات 52
الكاتب خالد قنديل
أضيف 2025/09/13 - 12:54 AM
آخر تحديث 2025/09/13 - 3:04 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 113 الشهر 8709 الكلي 11926582
الوقت الآن
السبت 2025/9/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير