حين يصبح الترند إمتحانًا للبصيرة
انتصار الحسين
في عالمنا الرقمي المتسارع، صار الترند ظاهرة لا يمكن تجاهلها، موجة عاتية يتدافع خلفها الناس بلا وعي، ظانين أنهم يمسكون بخيط الحقيقة أو يتابعون ما هو مهم. لكن، ما بين هذا السحر الآني يكمن خطر جليّ يصعب تجاهله: تحويل الترند إلى ساحة قاسية تفضح الخصوصيات، وتشهّر بالأشخاص، وتسقطهم في محارق التنمر والتنفيذ، أحيانًا دون ذنب يُذكر.
وقد رسم القرآن الكريم لنا حدودًا واضحة في التعامل مع الخطابات والموجات التي لا تبني، فقال تعالى:
(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) (النساء: 140).
وفي موضع آخر شدد سبحانه على الوعي والحذر:
(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)(الأنعام: 68).
وهذا التحذير الإلهي يجد صدى عميقًا في أقوال الحكماء والعلماء. ففي نهج البلاغة، يحث الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على أن لا نكون إمعة تتبع الآخرين بلا عقل ولا بصيرة، بل نوطن أنفسنا أن نحسن الإنصاف ونبتعد عن سوء الظن وانتقاء السوء، فقال:
«لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساؤوا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم.» (نهج البلاغة، الحكمة 167).
وأما الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، فقد نبه إلى خطر الخوض في الجدالات العقيمة التي تفسد المحبة وتنبت النفاق، قائلاً:
«إياكم والخوض والمراء، فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان، وينبتان النفاق.» (الكافي، ج2، ص300).
وأكد الشهيد محمد صادق الصدر قدس سره أن الأمة التي لا تزن أقوالها وأفعالها بميزان الحق، لا بد أن تنزلق في أوحال الباطل، حتى وإن ظنت العكس، فقال:
«إن الأمة إذا لم تزن أقوالها وأفعالها بميزان الحق، انزلقت في مهاوي الباطل وإن كانت تظن أنها على صواب.» (خطب الجمعة 1999).
الترند، إذن، ليس ذنبًا بحد ذاته، بل طريقة تعاطينا معه هي التي تحدد إن كان سببًا للبناء أو للهدم. فهذه الظاهرة الرقمية، رغم سلبياتها المعروفة كالفضيحة والتنمر، قد تتحول إلى أداة قوية لردع الظلم، ونصرة المظلومين، وكشف الفساد، ونشر الفضائل، ودعم المنتجين البسطاء بما يكرمهم ويعينهم على رزقهم الحلال.
وعي ومسؤولية
وفي ضوء ما سبق، تتطلب منا المواجهة مع كل موجة ترند وقفة وعي ومسؤولية. لا بد من التمهل والتحقق، وعدم الانجرار خلف كل ضجة، بل توظيف هذه الظاهرة ضمن ضوابط أخلاقية وإنسانية. فبكلمة طيبة قد نخفف من معاناة إنسان، ونخلق ارتباطًا إنسانيًا قوامه الرحمة، فيما بكلمة جارحة قد نُهدم سمعة ونترك جرحًا لا يندمل.
أمامنا خياران: أن نكون جزءًا من موجة ضوضاء بلا مضمون، أو أن نختار أن نكون صوتًا رشيدًا مسؤولًا في فضاء يعج بالفوضى الرقمية. ومن هذا المنطلق، تُعرض بعض المبادئ العملية التي تحوّل الترند إلى أداة خير:
التدقيق والتحقق من صحة المعلومات قبل المشاركة أو الترويج.
استخدام الترند لنشر الخير والقيم، ونصرة الحق والضعفاء.
احترام خصوصيات الآخرين، والابتعاد عن كل ما يجرح كراماتهم.
توجيه الصوت ليكون سببًا في بناء المجتمع لا هدمه.
في النهاية، لا يعد الترند سوى امتحان للبصيرة. فلتكن مشاركتنا فيه شهادة للحق، ونشرًا للرحمة، لا سببًا للظلم والتنمر. ولنسعَ أن يحكم حضورنا الرقمي ضميرنا وروح أخلاقيتنا، فلا نفقد إنسانيتنا وسط زحام السطور والمشاركات.