الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
لقاء عابر

بواسطة azzaman

لقاء عابر

مهند الياس

 

 

في هذا  المقهى  وهو اشبه بالدهليز النصف  مظلم النصف مضيء و

   الذي يضيق من الداخل  وتنفتح واجهته الامامية امام الشارع العام ، اهتديت اليه لكي اجلس في مكان يخلو من الجالسين ..اي في اقصى عمقه .. اذ و جدت نفسي اني في مكان هاديء و بعيدا عن ضوضاء  زحام الشارع ، وضجيج الباعة ، ووجوه الناس  المتعبة ،والتي مرغها الزمن في مستنقعاته     المرة . قلت بامتعاض لابأس  :

*هذا مكان جميل !

ذهبت عيناي تجس   جدران المقهى ، فوجدت صورامختلفة ، تحتضن ازمنة متداخلة ، ولكنها تفصح عن عالمها البسيط والجميل ،

شارع الرشيد ، السيارات القديمة  ذات الموديلات   المختلفة..

الحمالون الذي يدفعون بعرباتهم المحملة   .. مكتبة   مكنزي.. اورزدي باك ..مقهى المربعة ..وبعض واجهات الابنية القديمة والعالية ذات النوافذ المقوسة وهي اشبه بالشناشيل لبغدادية

  اذ كثيرا ما كان يحبها اليهود  لتكون واجهات مريحة لمكاتبهم التجارية      

وضع النادل  استكان الشاي، وهو بنظر الي بنظرات   مريبة

مليحة ..قلت :

 _شكرا ...!

وفتح وجهه المتورد بنصف ابتسامة ، وغادرني دون ان يجب!

 لايزال المقهى خاليا الا من بعض الوجوه المعدودة ، اذ رايت

فتاتا متسولة وقد ولجت المقهى الدهليز ، وهي ، في العشرين من العمر ، ممشوقة القوام عسلية

العينين: محجبة ، بشرتها ذات سحنة خمرية ووجه مدور حسن

 وسمعت رجلا يقول:

_ هذه متسولة ام ملكة جمال !

توقفت امامي ، ومدت يدها بخجل وحياء ،توجست ملامحها اكثر ، وبدون تردد اخرجت من جيبي ورقة نقدية   من فئة صغيرة ، تناولتها من يدي ، قالت دون ان اسألها :

_ امي في المستشفى .... ولد ي طفل ..!

والتفت يمينا .. كان الطفل بعمر الورود ، وهو يقف امام رجل كهل يطلب منه المعونة ، بينما رايت الرجل الكهل وقد صرخ بوجهه ..:

اذهب ايها الكلب !

      وانصاع الطفل    ، والتجأ  الى امه ، وهو غاضب       ، بينما لا تزال تقف الفتاة ، امامي ،وهي تنظر الي بنظرات غريبة   لها مغزى قد لا افهمه   .ثم ما لبثت ان انصرفت بخطوات  ثقيلة وهي تسحب وراءها الطفل  الذي مط بوزه باستهزاء   امام الرجل الكهل  وهرب فقذفه الرجل بشتيمة  :

_ تف يا نغل!!

في اللحظة ، دخل شاب مرح ،تغطي راسه فروة    بيضاء كالقطن بهندام محترم ، واحتضنني بقوة ، كما لو انه   وجد ضالته في ، بادلته نفس الموقف ، بينما يساورني الشك في معرفته ولكن هذ لا يعني بان بعض ملامحه قد اختفت عن ذاكرتي تماما ..حيينه وبادلته بنفس اللياقة ، وطلبت منه ان يجلس بقربي .. وراح يتفحص جاعيد وجهي ، ورفع يده ومسد شعر راسي  الابيض المشعث وبادرني:

_ اوه لاتزال هذه الندبة على جبينك ...يا خالد!

 وقلت :

.. انه يعرف اسمي!

.. واسترسل :

_ لقد كان من حسن حظك  وقتها عندما قفزت من ظهر      الدبابة

 من حسن الحظ كانت تحت اقدامك كثبان من الرمل الهشة .. ولولاها  لانشق راسك الى نصفين  اذكرذلك لقد سالت منك  دماء كثيرة   ..حتى    وصولنا الى المستشفى !

  وصرخت من اعماقي بصوت عال وبدون وعي  :

_   ) لك هشام ... انت وين ... (!!

وانفجرت الدموع بغتة من عيني وسالت على خدي ، واحتضته ثانية ، مثل حبيب وانا اجهش بالبكاء  :

_ هشام ....  حبيبي هشام..!!

.. ورايته هو ايضا ..منفغل بالبكاء .. وكاننا في مأتم!

قلت:

_ اوه اربعون عام .. ليست بالقليلة .. عمر باكمله  يا هشام !

واجابني وعيونه مبللة بالدموع:

_ انه عمر مليء بالماسي .. ولكنه منحنا الشيء الكثير يا للصدفة الجميلة .

._ ولكن قل لي  مالذي جاء بك الى هنا ..!!

قلت بمر ح :

-_ ربك الذي زرع الحب بيني وبينك قبل اربعين سنة !

ضحك ، وبانت اسنانه الصفراء  .. قال:

_ شوف خالد .انا سعيد جدا بلقائك.. انتظر ني ..   لا  اتاخر عليك ... ربع ساعة فقط .. لدي شغلة  صغيرة  .. لدي نقودا اسلمها لصاحبها  وارجع اليك حالا ... قلت له :

لا باس ..!

 وهرول خارج المفهى بخطوات   سريعة     

   ثم اختفى !

 وازح عن ذاكرتي غبار السنين  الثقيلة ، بعد  ان مسحت

باناملي بلل الدموع التي  احرقت هواجسي   اذ بدى ذلك اليوم العصيب بكامل مشهده   .. حين قلت  ل هشام:

 _ اتركها .. ربما تقتلنا !

وصرخ بي:

_ انها فوقنا .. سوف  تغدر بنا !

 وبالفعل  سحب اقسام البندقية  وصوب فوهتها نحو راسها المثلث المرعب المائل الى اللون الرصاصي  الفاقع ، بينما يتحرك لسانها بحركة سريعة وصحت به:

لا يا هشام .. سوف تذهب وتختفي  صدقني!

وقفزت نحوه ومسكت ببندقيته وقبلت جبينه قلت:

_ لنتظر..!

وقتها كانت القنابل كثيرا ما تنفجر حولنا ، وبالقرب    منا

محدثة دويا هائلا يصم الاذان ،وازيز الرصاص مثل المطر ينهمر من  فوق موضعنا والذي حصناه قبل اسبوع باكياس الرمل الكثيرة  والاحجار والكتل  الترابية ، ومروقت بطيء

 يمضي على عكازه ويخطو مثل خطوات سلحفا ة   هرمة ،ومصيرنا معلق بين مطر الرصاص وانفجارات    القنابل ، وبين هذا الثعبان اللعين الذي راح يتلوى بطريقة استعراضية خبيثة ، حتى دخل ثقبا في زاوية الموضع   وانحشر فيه .

.حين ذاك تنفسنا الصعداء .. قلت:

_ هشام يبدو ان القصف توقف!

لم يجب بل  رايته يرتجف من الخوف ،وراح يبتسم محاولا  اخفاء احساسه الممزق.

مضت دقائق . ودقائق. وهشام لم  يفي بوعده بالعودة   الى المقهى ، وباعتقادي ان اخلاق هشام لا تسمح له بعدم الايفاء بالموعد .. انه رجل بدوي وشهم .. وكيف لا ياتي ..؟

قلت:

_ ربما تأخر لسبب ما .. او حدث له طاريء !

مضت ساعة كاملة دون ان ياتي هشام ...نهضت   وتهيأت للخروج  من المقهى، اذ اقبل علي النادل وهو يرتجف هلعا

 وكلماته تتقطع في فمه :

لقد مات هشام !

وصرخت .. ماذا تقول ؟

اجابني:

 _ لقد دهسته سيارة اثناء عبوره الشارع .. ونقلوه الى المستشفى !

هنا... وجدت ان  نوبة من الاحساس تشنج كياني ، وتلف بدوامتها اعماقي ..وبدا راسي يختلج فيه صداعا حادا  لم

 يداهمني مثله من قبل .. ولم استطع ان انقل     خطواتي ،  وجلست متهالكا على الارض ،، وبدات اشعر انني   في

 دولاب يدور بي .. وحتى الوجوه التي تراكمت     حولي

 بدات هي الاخرى تدور وتتخالط..و... من ثم ...عدت

لم ار شيئا !!


مشاهدات 47
الكاتب مهند الياس
أضيف 2025/09/06 - 12:27 AM
آخر تحديث 2025/09/06 - 3:30 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 108 الشهر 3820 الكلي 11421693
الوقت الآن
السبت 2025/9/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير