الطواشات .. من قطف التمور إلى جني الأصوات
احمد جاسم الزبيدي
حينما كنّا صغاراً، كانت العطلة الصيفية تعني رحلة إلى قرية بِتة وهبي، حيث بساتين الرمان وغابة النخيل التي لا تنتهي. هناك كنّا نقيم عند المرحوم خالي كاظم أبو صادق وزوجته العمة حورية، وكان اهتمامه بنا يفوق الجميع – ربما لعلاقته الوثيقة بأخي محمد أو ربما لأن الشيوعيين كانوا يملكون قلباً أوسع من مساحة النخيل. لكن حديثي ليس عن خالي، بل عن موسم( الگصاص) – قطف التمور. كان المشهد أشبه بمهرجان شعبي: عشرات النخيل تعانق السماء، ونساء غريبات يأتين من القرى، يحملن لقباً خاصاً هو «الطواشات». هؤلاء النسوة كنّ يجمعن التمور بصبر وأيدٍ خشنة، مقابل أجرة بسيطة أو حصّة من الثمار. بعدئذٍ، تُحمَّل الأكياس على ظهور الجمال، وتنطلق القافلة نحو أسواق المحاويل: سيف الحاج كميل، سيف رؤوف الحلاوي، وسيف منعم النجم… حيث التمر يتحول إلى نقود والعرق إلى رزق. أما اليوم، فقد تبدلت المواسم، ولم يبقَ من الطواشات إلا الاسم. صار لنا طواشات من نوع جديد: لا يجمعن التمر، بل الأصوات. لا يتسلقن النخيل، بل جدران البيوت، يطرقن الأبواب تارة، ويقسمون بالعهود تارة أخرى. يوزعون الوعود كما كانت الطواشات يوزعن التمور: بالميزان أو «بالكوم». لكن الفارق كبير: فطواشات التمر كنّ نساءً يعرفن معنى الشقاء، يتركن بصمة العرق على سعف النخيل. أما طواشات الانتخابات، فهم رجال ببدلات أنيقة، يجيدون فن الاختفاء بعد انتهاء الموسم. ما أن تُقطف الأصوات وتُحزم في صناديق الاقتراع، حتى يتبخرون كما تتبخر قطرة ماء في نهر. لا تسمع لهم صوتاً، ولا ترى لهم خبراً. انتهى الموسم، وانتهت الحاجة إليهم. في العراق اليوم، صار لكل نائب بستانه، ولكل مرشح نخيله، ولكل مواطن دوره في موسم «الگصاص». أما الطواشات – بنسختهم الحديثة – فلا فرق بينهم وبين المواسم العابرة: يأتون مع أولى نسمات الحملات الانتخابية، ويذوبون مع أولى جلسات البرلمان. وهكذا، يبقى المواطن العراقي مثل نخلة قديمة: تُقطف ثمارها كل أربع سنوات، لكن جذعها يظل صامداً تحت الشمس، منتظراً موسم قطاف جديد… بطواشات جدد، ووعود أشهى من التمر، لكنها بلا طعم.