ديغول: من الحليف الاستراتيجي إلى القطيعة الرمزية (1958-1969)
فرنسا : من ديغول إلى ماكرون تطورات الموقف الفرنسي والموقف الثابت بحل الدولتين
باريس- سعد المسعودي
لطالما شكّل الموقف الفرنسي من القضية الفلسطينية مرآة لتحولات السياسة الخارجية في أوروبا الغربية، بين التحالفات التاريخية مع إسرائيل وتطلعات السلام العادل في الشرق الأوسط. منذ الجنرال ديغول حتى إيمانويل ماكرون، تقلبت السياسة الفرنسية بين الانحياز، التوازن، وأخيرًا الاعتراف مع بداية الجمهورية الخامسة وتولي الجنرال شارل ديغول السلطة في العام 1958، كانت فرنسا أقرب الحلفاء لإسرائيل، إلا أن التحالف شهد تصدعا بعد حرب الأيام الستة في 1967، حين فرضت باريس حظراً على تصدير السلاح لإسرائيل، ووجه الجنرال ديغول انتقادات للإسرائيليين واصفاً إياهم بأنهم “شعب نخبوي ومتسلط”
واعتبر المراقبون أن هذا الخطاب شكل قطيعة دبلوماسية بين البلدين، وأسس لموقف فرنسي أكثر توازناً بين أمن إسرائيل وحقوق الفلسطينيين، رغم أن الحديث عن دولة فلسطينية لم يكن مطروحاً بعد
«من بومبيدو إلى جيسكار ديستان: التمهيد الدبلوماسي واحتضان أول تمثيل فلسطيني»
اتخاذ خطوة
بعد ديغول، سلك الرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو نهجاً أكثر تحفظاً، ودعم قرارات الأمم المتحدة كما شدد على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة.
إلا أن بومبيدو لم يتبن بشكل واضح مطلب إقامة دولة فلسطينية.
أما فاليري جيسكار ديستان الذي نصب رئيسا في الفترة بين عامي 1974 و1981، فقد اتخذ خطوة أولى أكثر جرأة، دعم فتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس عام 1975، وساهم بإصدار إعلان البندقية الأوروبي عام 1980 الذي أقرَ بحق الفلسطينيين في الحكم الذاتي، في تلميح غير مباشر قُرأ على أنه دعم حق الفلسطينيين في إقامة الدولة.
«ميتران: أول رئيس فرنسي يتحدث عن دولة فلسطينية
‹› (1981-1995)
في العام 1982، وخلال زيارة تاريخية إلى الكنيست الإسرائيلي، فاجأ الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الجميع بقوله “الحوار يعني السعي نحو الحقوق الكاملة.. وهو ما قد يعني في النهاية قيام الدولة الفلسطينية”.
أحدثت عبارة ميتران صدمة وزلزالا سياسياً في الداخل الإسرائيلي، حيث اعتبرت أول تصريح رسمي من زعيم غربي عن دعم مبدأ الدولة الفلسطينية، ورسخت تحولاً في الموقف الفرنسي، نحو دور الوسيط المتوازن في الصراع.
الرئيس شيراك: تحوّل شعبي ورسمي نحو الفلسطينيين (1995-2007)
اشتهر الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك بمواقفه المؤيدة للحق الفلسطيني، لا سيما بعد حادثة القدس الشهيرة المطبوعة بالذاكرة الفلسطينية.
في العام 1996، واجه شيراك الأمن الإسرائيلي غاضباً خلال زيارته للبلدة القديمة في القدس وقال “هل تريدون مني العودة إلى طائرتي؟”، وذلك رداً على تعنيف جنود الجيش للفلسطينيين المتجمعين حول الرئيس الفرنسي لمصافحته.
يذكر أن لشيراك علاقة وثيقة برئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات استمرت حتى وفاته، حيث استقبله في باريس ورفض عزله سياسياً كما فعلت عواصم أخرى.
أصبحت فرنسا في عهد شيراك الدولة الغربية الوحيدة التي تدعم بقوة قيام الدولة الفلسطينية وحق الفلسطينيين في تقرير المصير، كما يشير الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس في مقال نشره في موقع معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS).
في عام 2005، ومع تحسّن العلاقات بين باريس وتل أبيب إثر استقبال شيراك لشارون، تراجع الدور الفرنسي في القضية الفلسطينية وأصبحت مواقفها أقل استباقية.
من ساركوزي إلى هولاند: تراجع الحماس وتغليب التوازن (2007-2017)
وصف مراقبون سياسة فرنسية اتجاه قضية فلسطين بالـ “ازدواجية” في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي.
وبرز حينها الدعم الفرنسي المعلن لأول مرة لمبدأ “حل الدولتين”، في حين كان انحياز الإليزيه بشكل عملي أقرب إلى إسرائيل من الفلسطينيين.
في عام 2011، دعمت فرنسا انضمام فلسطين إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو”، ورفع العلم الفلسطيني لأول مرة فوق مبنى المنظمة الأممية، إلا أن باريس لم تمض نحو الاعتراف الكامل بدولة فلسطين.
من جهته، كان الرئيس فرانسوا هولاند أكثر حذراً، رفض الاعتراف المنفرد بالدولة، ودعم المفاوضات المباشرة كشرط لأي تحرّك دبلوماسي
«ماكرون حقق الحلم الفرنسي «
في إعلان تاريخي، قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن فرنسا ستعترف رسمياً بدولة فلسطين، وأعلن أن الاعتراف الرسمي سيكون داخل أروقة الأمم المتحدة في شهر أيلول/سبتمبر المقبل، لكن هذا الموقف غير المسبوق لم يأت من فراغ، بل يُشكل تتويجاً لمسار دبلوماسي طويل من التدرج السياسي والدبلوماسي الذي سلكته باريس منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في العام 1958 ترواح بين دعم مبكر لإسرائيل إلى مواقف متوازنة، ثم تبني صريح لحل الدولتين إلى الاعتراف بالدولة.
وخلال إعلانه، قال الرئيس ماكرون إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يأتي وفاءا بالالتزام الفرنسي التاريخي لتحقيق السلام العادل والمستدام في الشرق الاوسط.
حل الدولتين
ماكرون: من الدعوة إلى “حل الدولتين” إلى الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين (2017- 2025)
منذ ولايته الأولى، أكد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون على أهمية “حل الدولتين”
وفي شهر يوليو/تموز 2017، وخلال استقباله لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، صرح ماكرون بأن “حل الدولتين هو الطريق الوحيد للسلام”، لكن يبدو أن استمرار الحرب المستعرة في قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 دفع باريس إلى إعادة تقييم موقفها.
يوم الخميس الموافق لـ 24 يوليو/تموز 2025، كشف الرئيس ماكرون عن موقف واضح من الدولة الفلسطينية، وكتب على حساباته الرسمية على منصات التواصل الاجتماعي قائلاً:
وفاء بالتزامنا التاريخي بتحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.. قررت أن تعترف فرنسا بدولة فلسطين
وجاء التأكيد من وزارة الخارجية الفرنسية على أن الإعلان الرسمي للاعتراف سيكون داخل الجمعية العام للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول/سبتمبر المقبل، اعتراف يأتي ضمن “ديناميكية سياسية جديدة” تهدف إلى الضغط على إسرائيل لوقف عملياتها العسكرية في غزة.
وأكد المتحدث الرسمي باسم الخارجية كريستوف ليموان على أنه “من الضروري إطلاق زخم سياسي، والوقت الآن هو الوقت المناسب”. لتكون فرنسا بذلك أول قوة غربية كبرى تقدم على هذه الخطوة.ويتسائل مراقبون: هل يشكل إعلان ماكرون نقطة تحول في الخطاب الغربي ودعوة لتوسيع نطاق الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. أم أنها ستكون لحظة فرنسية منفردة بين القوى الغربية الكبرى؟