الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شارع الكفاح .. شريان النهضة المؤدي الى الكفاح

بواسطة azzaman

شارع الكفاح .. شريان النهضة المؤدي الى الكفاح

وليد الحيالي

 

في قلب بغداد، يمتد شارع الكفاح كحبلٍ سُرّي يربط الماضي العريق بالحاضر الموشوم بالتعب. هذا الشارع، الذي كان يُعرف قبل ثورة 14 تموز 1958 باسم «شارع غازي»، يحمل بين جنباته تاريخًا زاخراً بالأحداث، ويحتضن بين جانبيه ساحات وأحياء وأسواقاً وأساطير شعبية تروي روح بغداد الحقيقية.

تأسيس الشارع: ملكي المنشأ شعبي الروح

يرتبط تأسيس شارع الكفاح بتاريخ تحديث بغداد في العهد الملكي. فقد أُنشئ الشارع على مراحل بدءًا من العقد الثالث والرابع من القرن العشرين، ضمن مشروعات «أمانة العاصمة» لتوسيع شبكة الطرق واستيعاب حركة النقل بين قلب بغداد وأحيائها الشرقية. وقد اكتمل الشارع بصورته الأساسية في أوائل الخمسينيات، وكان يُعرف رسميًا عند افتتاحه باسم شارع غازي، تخليدًا لذكرى الملك غازي بن فيصل (1933–1939).

كان الغرض من إنشائه أن يكون شريانًا حيويًا يربط مركز بغداد من باب الشرقي وساحة الطيران وساحة النهضة بأطرافها الشرقية، مرورًا بالأحياء الشعبية الممتدة شرق قناة الجيش. والجدير بالذكر أن شارع الكفاح أنجز قبل إنشاء مدينة الثورة (مدينة الصدر لاحقًا) التي أُسست عام 1959 في عهد عبد الكريم قاسم لإيواء الفقراء وسكان الصرائف. وقد ساهم الشارع في ربط سكان المدينة الجديدة ببغداد.

بين الساحات والأحياء الشعبية

يبدأ شارع الكفاح من ساحة الطيران، مرورًا بساحة النهضة، وصولاً إلى مشارف مدينة الثورة (مدينة الصدر). وعلى طوله، تتفرع منه أزقة تؤدي إلى أحياء شعبية شهيرة، مثل عكد الأكراد، وأبو سيفين، والدنكچية، ومحلة حسن باشا، والمهدية، وعزات طويلات، وقنبر علي، والفضل، والصدرية، والكولات.

محلة الكولات، الواقعة على مقربة من الشارع، تُعد من أعرق أحياء بغداد وأكثرها شهرة بأهلها الطيبين وبيوتها البغدادية القديمة، وقد خرج منها الكثير من الشخصيات البارزة.

أسواق تحاذي الشارع

يمتاز شارع الكفاح بأسواقه العتيقة التي تغذي سكان بغداد بما يحتاجونه وتملأ الشارع ضجيجًا وألوانًا وروائح مألوفة. أبرز هذه الأسواق:

سوق الفضل ببهاراته وحبوبه.

سوق الصدرية بخضرته الطازجة وأجوائه الشعبية.

سوق حنون، الواقع على مشارف الشارع قرب باب الشيخ، الذي عُرف بأنه ملاذ للفقراء والمتبضعين من كل مناطق بغداد لما فيه من ملابس وأدوات منزلية بأسعار زهيدة وأجواء شعبية خالصة.

بالإضافة إلى أسواق المستعمل والخردة في أطراف النهضة والدنكچية.

شقاوات شارع الكفاح: أساطير شعبية حقيقية

لم يكن شارع الكفاح مجرد طريق، بل كان مسرحًا مفتوحًا لحكايات رجال سُمّوا «الشقاوات»؛ رجالٌ بأيدٍ خشنة وقلوب طيبة، يحملون على أكتافهم هموم أحيائهم، ويقيمون العدل على طريقتهم الخاصة، في زمنٍ كانت فيه الدولة ضعيفة الحضور في الأزقة، وحيث كان الفقراء بحاجة إلى مَن يحميهم من بطش المتنفذين والبلطجية.

في تلك الأزمنة، لمع نجم أسماء صارت على كل لسان، حتى غدت جزءًا من أساطير بغداد الشعبية. منهم ستار الأسود، الذي كان يعرف بشدّته ووقاره، وبأنه «ما يظلم ولا يرضى بالظلم». كان يتجول بين باب الشيخ والصدرية كحارسٍ صامت، لا يتدخّل إلا حين تمسّ كرامة الناس.إلى جانبه كان يقف أبو الهب، شقيٌّ من طراز خاص، له هيبة تحسم النزاعات في الأسواق والأزقة، وقد أحبّه الناس لخفة ظله وكرمه مع الصغار.

ولم يقلّ عنهم شهرة أولاد بهية السوداء، وهما أخوان قيل إنهما ورثا الشجاعة عن أمهما الصلبة، وكانت حكاياتهما بين محلات الكولات والمهدية تُروى وكأنها قصص أبطال شعبيين، يسارعان لنجدة كل مظلوم حتى لو كلّفهما ذلك الكثير.

وكان معهم غيرهم ممن حفرت أسماؤهم في ذاكرة شارع الكفاح، مثل عبود كرجي ومحيبس أبو فهد، ممن كانت لهم صولات وجولات في محاربة الظلم وحماية الناس.

رغم قسوتهم الظاهرة، كان هؤلاء الشقاوات يُجسّدون مروءة البغدادي الأصيل: «غضوب على الظالم، رؤوف على الفقير». وكانت أمهات المحلات وأطفالها يشعرون بالأمان طالما هؤلاء واقفون على ناصية الشارع.

أحداث كبرى شهدها

شهد شارع الكفاح أحداثاً مفصلية في تاريخ العراق الحديث؛ من مظاهرات العمال في الأربعينات، إلى التظاهرات الطلابية والشعبية في خمسينات وستينات القرن الماضي، وما رافقها من مواجهات مع قوات الأمن، وحتى تظاهرات ما بعد 2003 احتجاجاً على غياب الخدمات والبطالة. وكان دائمًا مسرحًا لصراع الإرادات الشعبية مع السلطة، وصدىً لصوت بغداد الغاضب والمطالب بحقوقه.

واقع مؤلم وحلم بالتجديد

اليوم، يقف شارع الكفاح شاهداً على عقود من الإهمال والعشوائية. فقد غابت عنه الصيانة، وضاقت أزقته بالازدحام، وخنقته العشوائيات وتراكم النفايات. أسواقه متهالكة، وشوارعه ممتلئة بالحفر، وأهله يئنون تحت وطأة الفقر والبطالة. ومع ذلك، فإن الشارع لا يزال ينبض بالحياة، محتفظًا بملامح من ماضيه المجيد، وصورة حية لذاكرة بغداد الشعبية.

خاتمة

إن شارع الكفاح ليس مجرد طريق طويل يشق بغداد من وسطها إلى أطرافها، بل هو تاريخ يمشي على الأرض، وذاكرة متقدة، ومجتمع نابض لا يعرف الانكسار. فكما حمل اسمه دلالة على «الكفاح» ضد الظلم والتهميش، سيبقى رمزًا لصمود أهله وعطائهم، وأملاً في أن يعود يومًا كما كان: مزدانًا بالعمران، زاخرًا بالنشاط، مفعمًا بروح بغداد الأبدية.

 


مشاهدات 93
الكاتب وليد الحيالي
أضيف 2025/08/02 - 1:25 AM
آخر تحديث 2025/08/02 - 11:01 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 339 الشهر 1074 الكلي 11276160
الوقت الآن
السبت 2025/8/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير