الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
سعيد بن جبير.. يموت بمغازلة القمر

بواسطة azzaman

قصة قصيرة

سعيد بن جبير.. يموت بمغازلة القمر

محمد إسماعيل

منذ طفولتي أحلم بكف الله، تمر على بيتنا، تطهره؛ فيسقط الشيطان من المروحة.. وامي.. تتفاخر بكونها أمية، والنبي محمد أمي، وأن عيسى يمشي على الماء، وموسى شقه بعصاه.

مات ابي، تاركاً سريرها اليافع خالياً، إلا من بذرتي، في رحمها، وإبن الجيران يبيت الليالي، في دارنا.. تجره من ياقته كما لو تجر تيساً، من قرنيه الى غرفتها، بأكتاف مدورة كالحليب (!؟) توصد الباب؛ فأظل أصطلي بالعطور.. سومرية وبابلية واكدية وفرعونية وعيلامية ويونانية ورومانية واسلامية، أحيانا يضج البيت من حولي بعطر همجي مما قبل التاريخ.

تزكم سمعي، صورة زنجي افطس يداهمني.

أجبر جارنا إبنه، يوماً، على المبيت، في منزلهم؛ ردماً لوهدة الفضائح المفغورة فاها، بحجم الحي كله، من أقصى شبابه في الأركان، الى أقصى العذارى في المخادع، يتغنجن بحياء خجول.

حين إستيقظ، منتصف الليل، ووجد نفسه، في دار أهله، بعيداً عن أمي؛ ظل يصرخ حتى مطلع الفجر: قتلى.. شيوخ قتلى وشباب، يتفيأون ظلي، إينما حللت.

جيء بأمي.. له.. ضحى على رؤوس الأشهاد؛ فبكى لمرآها، وبكت.. بكينا جميعاً.. أنا بكيت على ما فات من طفولتي، وما سيجيء، في قصة: (سعيد بن جبير.. يموت بمغازلة القمر) وتهدج أبوه بعبرة نادمة، حين إنسل سرب سائب من القتلى.. شيوخاً وشباباً.. من ظل إبنه، الى الشمس.

لاطفته أمي، أمام حشد الجيران المتجمهرين، وقصت عليه حكاية عجوز الهور، المكرورة، التي يصغي لها، بشغف، في كل مرة.

سمعت صوتاً، يستدير، ذائباً في المغادرة:

-              أوي فدوة

***

منزلنا ينتصب قبالة شروق الشمس، عند نهاية طرف النصف الاول، من الحي.. يجاورنا من اليمين شحاذان، أعمى وكسيح، ويحاددنا رصيف الشارع الفرعي، يساراً.

***

غرقت عجوز في هور الصحين، فإنطبعت صورتها على القاع تتلألأ كأنها في حوض زجاجي نظيف.

جيء بغواص لإنتشالها، فأخرج حزمة أعشاب برية، من الماء، وصديري فتاة يافعة، وحذاء مناجم ثقيل، بينما ظلت صورة العجوز مطبوعة على قاع الهور، الى أن ردم، وصار براً على مد البصر، فلم تنطبع الصورة عليه؛ لنقص ببعض الأحماض الفوتوغرافية في القصة.

أيقظني زحف الأعمى والكسيح، على الظلام، ليلاً، يصغيان للقبل:

-              أحبك أكثر من أمي

عندما شعرا باصغائنا.. ثلاثتنا.. توقفا بلا مبالاة، عائدين للنوم؛ فغادر الأعمى، الجدار، يتكئ على الظلام صوب نومه، وكنس الكسيح الحوش، يزحف، متقهقراً.. بينما رائحة التمن الهابة من الشيراتون تزكم جوعي

***

كان خميساً فجاً، بثقل السبت، عند مطلع الإسبوع، ذلك المساء الذي تأخر خلاله، عن المجيء، ساهراً بين جمع من أصدقائه.. حينها تثاءب نهر من الانتظار، بين الغروب وباب غرفتها.

لم تتعشَ، ولم تعد لي عشاءً، بل إكتفت بتكسير بعض الصحون، ونامت، بعد أن بصقت مرة بإتجاه النجف والحجاز، ومرة بإتجاه تل ابيب.. كانت تنوي البصاق صوب قم والفاتيكان، إلا أن الحرب إنتهت، وداهمها النعاس.

بعد انقضاء وطر من الليل، فوجئت به يغفو الى جانبي، في السرير، مستلقياً، كما لو كان يغفو هكذا منذ الازل.

نمنا حتى الصباح، نوماً هانئاً، لم يحدث ما يلفت الإنتباه، سوى شزرات أمي، على مائدة الافطار:

-              آخر دنيا، الولد ضرة لأمه، أعوذ بالله، ستنقلب الدنيا.

بقيت طوال ذاك النهار ألوب، كلما دنوت من السرير أشتهي الإستلقاء عليه بغنج، كأنني عذراء قاب قوسين من خاطر القمر، مبهورة ببواكير أنوثتها، تلتاث بأول حب يخطر؛ فيشيب قلبها من شدة الخجل.

ايقظتني صورة العجوز، منتصف الليل، وإدعت أنها حلم يطوف في نومي:

-              أمك مسكينة.

ثم إستدارت محلقة قرب البلاط، توهمني بأنها تمشي، كانت تلك هي الليلة الثانية، التي ينام خلالها الى جواري؛ فتركته وحيداً، في السرير، وأيقظت أمي:

-              روحي له.

جرت ملهوفة، تدك جبالاً من رجم النعاس، وإندست معه في فراشي...

لا يعنيني من هذا القلق كله، سوى العودة للإستغراق في لذاذة النوم من جديد، وحين أقبلت على فراشها حانقاً لأنام، وجدته قد سبقني اليه:

-              انت لذيذ لن أفارقك.

***

أبي الذي مات بين الجبال، بين الجبال بكى، وعجوز الهور المطبوعة صورتها على قاع الحكاية، على قاع الصحين بكت، وأمي وإبن الجيران تلاشيا، مخلفين صدى قبلات باهتة، يتواصل في الخفاء، لا أدركه، إلا في حالات الوجد الشديد، عندما يهيج بي الشوق.

***

أبي مات بين الجبال، عندما كان في سفر، برفقة جارنا.. هذا .. ذاته، ذاهبان لإرتشاف السراب، حيث قيل لهما: من يرتشف السراب، يشفى من سبعين علة، أيسرها الجرب والفالج والثغاء كالحملان، وحالما خاضا في أوحاله مات أبي، وهو يشقى بسبعين علة، إنبثقت فجأة من بين يديه ومن خلفه ومن حيث لا يعلمان: "فحفرت له قبراً، وواريته السراب" ليعود جارنا بمفرده، يصوغ الحكاية كيفما يشاء.

***

صارت أفكاري تشبه العذراوات، بما في ذلك الدورة الشهرية، ونتوءان، توهمتهما على صدري، تحت القميص، أعجز عن إخفائهما، ورقة الأطراف بعد ليلتين نامهما إبن الجيران معي، في الفراش.

***

و… جعلنا أجسادكم زنزانات، تسجنوا فيها، حتى أرذل العمر، ومنكم من نقصفه لدغاً، فينطمر في الطمى الرسوبي، للسراب، قبل بلوغ الوطر، إننا ما نزال بكم حائرين..

نزق قرآني

***

كنت الوحيد الذي لم يفارق الحي، هاربا؛ عندما إنبلجت أمي من الفراغ، حبلى، بجنين يرفس في رحمها

أناي التوأم

هادئ أول الأمر، ثم إشتدت رفساته، وإنتفض، باقراً بطنها، لينتشر، أزرق مثل جرف السماء:

-              أين الناس؟

-              ويل للعالم من عثراته!

-              الدكتور 305.

ثم إستلقى يستريح من عناء المخاض، بعد أن إنوجد، وإمحقت أمي، شظى متلاشياً.

تستكين جبال ووديان ملامحه الشاسعة، مثل تضاريس الهندسة الكيميائية في جمال قند، وداعة طفولية، تشبه أوصاف أبي، الذي لم أره.

خلا الحي من السكان؛ إذ هربوا؛ نجاءً بأرواحهم، تاركين الدين والدنيا، فهذا يترك قاصة أمواله مفتوحة، وذاك يبقي الحمد في منتصف الصلاة دائرة....

القداسات تذبل...  رماد ترانيم، تذروه الريح، في الكنائس الخاوية.. ظلماء.. على عروشها.

ليس سوى بضعة اولاد، نسيهم أهلهم يلعبون؛ ظناً منهم أنها القيامة ".. تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى.."

تخفى الأولاد وراء سياج المقبرة، يتلصصون على الكسيح، وهو يمتطي كتفي الاعمى، سائرين، وسط القبور الوارفة ضحى.

تلفت الكسيح حوله، يتأكد من خلو المكان، ثم طلب من الأعمى، إنزاله، فأنزله، كما الدمية.

ولما إستوى على الأرض، زاحفاً، وضع بيد الأعمى، عثق تمر، وراح ينبش في التراب، يستخرج جثثاً متآكلة، وهياكل عظمية منهارة.

يكرز الكسيح العظام بتلذذ؛ فتنتعش نبضات قلبه مثل باقة قمر الدين (!؟) متخيلاً نفسه، يحتذي جناحين، يحلقان به، فوق سحاب الجنة العاطر، وهو يمطر عفاريت لاهبة؛ فيوقظ صوت التمر، ممضوغاً، بين فكي الاعمى، وهو يتذوقه، بتوجس، أول الأمر، ولما يجده تمراً الى أقصى مديات الخيال، يوغل في الأكل، كما لو كان يكحل حسناء من أجمل حوريات الحي، ليلة زفافها.

تعبت أنا من الكتابة، وأتعبني التفكير بميديا فخر الدين، وتعـــب الأولاد من التلصص، والكسيح من الموتى، وتعب الأعمى من لذاذة التمر الشبيه بكحل البنات.

للعظام التي أبلاها الموت، وعتقها الثرى، طعم اغبر، تحت أسنان الكسيح، يمضغه سعيداً.

إمتلأ الحي، بركام الوحشة، التي فارت من ساعة الحائط، المعلقة في غرفتي؛ مثلما فار الماء من التنور.

ظل الهِوَلةُ الوليد

شقيق روحي

يتنامى، مربكا الكواكب والنجوم، في أفلاكها، وهي ترتطم بجسامة جرم جثمانه العظيم.. تشجه.. وظل يتضخم حتى تلاشى، أثيراً في الفضاء.

وبقيت وحدي، أستوحش ليلتين، هانئتين في السرير، تضرج خلالهما نومي، بالقبلات السمر مثل عذراء يافعة، قاب قوسين من خاطر القمر، مبهورة ببواكير انوثتها، تلتاث بأول حب يخطر، فيشيب قلبها، من شدة الخجل.


مشاهدات 129
أضيف 2025/08/02 - 2:08 AM
آخر تحديث 2025/08/02 - 12:05 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 375 الشهر 1110 الكلي 11276196
الوقت الآن
السبت 2025/8/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير