العراقي وحب الوطن.. من العاطفة إلى مشروع بناء الدولة
عباس النوري
مقدمة تحليلية
تُعدّ مسألة التمسك بالوطن في الفكر العراقي من أكثر الظواهر الإنسانية عمقاً واستمرارية، إذ لم تستطع الأزمات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أن تُضعف من مكانة الوطن في الوجدان العراقي. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الدوافع الدينية والاجتماعية والسياسية التي جعلت من حب الوطن قيمة مركزية في شخصية العراقي، وتبيان كيفية تحويل هذا الحب من حالة وجدانية إلى مشروع وطني شامل لبناء الدولة ومكافحة الفساد.
أولاً: الإطار المفاهيمي لحب الوطن
يُعد حب الوطن قيمة أخلاقية وإنسانية متأصلة في النفس، إلا أنه في السياق العراقي يكتسب بُعداً عقائدياً. فهو ليس مجرد انتماء جغرافي، بل التزام ديني وإنساني يُعبّر عن الولاء للأرض التي حملت رسالة الأنبياء والحضارات. وبالتالي يصبح الدفاع عن الوطن والحرص على وحدته عملاً يتقاطع مع العبادة في المفهوم الإسلامي.
ثانياً: الهوية العراقية بين التاريخ والعقيدة
يُعتبر العراق من أقدم الحضارات على وجه الأرض، ومن رحم أرضه وُلدت أولى القوانين والمدن والكتابات. هذا الإرث الحضاري رسّخ في اللاوعي الجمعي شعوراً بالمسؤولية التاريخية تجاه الأرض. ومع دخول الإسلام، تشكّلت هوية مركّبة تربط بين الإيمان بالله والانتماء إلى الأرض، فتحوّل حب العراق إلى جزء من الهوية العقائدية التي توحّد الانتماءين الديني والوطني.
ثالثاً: أهمية العقيدة والإيمان في ترسيخ حب الوطن
العقيدة الإسلامية، بما تحمله من منظومة قيمية وأخلاقية، تشكل الإطار المرجعي الأسمى لحب الوطن. الإيمان بالله تعالى ورسوله محمد ﷺ وأهل البيت الأطهار عليهم السلام يجعل من خدمة الوطن مسؤولية شرعية. فمن خلال مفاهيم العدل والرحمة والتكافل الاجتماعي، يصبح الوطن ميدان تطبيق الإيمان العملي. وقد أكد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على أن الإصلاح في المجتمع واجبٌ لا يقل عن أداء العبادات، وبالتالي فإن الدفاع عن الوطن وحماية مقدراته يدخل ضمن مصاديق حفظ الأمانة الإلهية.
رابعاً: العقيدة والتنوع القومي والمذهبي
يشكل التنوع القومي والمذهبي في العراق ثراءً إنسانياً وثقافياً، لا سبباً للانقسام. إن العقيدة الصحيحة لا تتناقض مع التعدد، بل توفر له إطاراً أخلاقياً يضمن التعايش والاحترام المتبادل. الإسلام الحنيف، في جوهره، يدعو إلى احترام الآخر والإحسان إلى المختلف، ما يجعل من وحدة الكلمة الوطنية امتداداً للوحدة الإيمانية التي تُعلي من شأن الإنسان أيّاً كان مذهبه أو قوميته.
خامساً: توظيف الحب الوطني لبناء الدولة ومكافحة الفساد
يمكن للحب الوطني المتجذر في وجدان العراقيين أن يكون قاعدة لبناء مشروع وطني متماسك إذا ما وُظّف بشكل منهجي. فالقيادات الدينية والسياسية والاجتماعية تمتلك قدرة استثنائية على تحويل هذه العاطفة إلى إرادة جماعية للإصلاح. فحين يتحول حب الوطن إلى فعلٍ مؤسسي، يمكن أن يساهم في بناء دولة عادلة، قادرة على القضاء على الفساد وتحقيق الرفاهية. إن الوطنية، في هذا السياق، ليست شعاراً بل ممارسة مستمرة تستمد قوتها من الإيمان بالله والولاء للمبادئ العليا.
سادساً: توصيات عملية للقيادات الدينية والسياسية والاجتماعية
1. بناء خطاب ديني ووطني يؤكد أن حب الوطن جزء من الإيمان وأن خدمته واجب شرعي وأخلاقي.
2. تطوير المناهج التعليمية لترسيخ قيم المواطنة والإخلاص في العمل والمسؤولية الجماعية.
3. تعزيز التعاون بين الحوزات العلمية والمؤسسات الأكاديمية لإنتاج فكر وطني مستنير يجمع بين العقيدة والعقلانية.
4. إطلاق مبادرات وطنية للتكافل الاجتماعي والتنمية المستدامة تُبرز روح الإيمان بالعمل.
5. توجيه الإعلام الوطني لنشر ثقافة الوحدة والتعايش بدلاً من الخطابات الانقسامية.
6. اعتماد برامج حكومية تشجع الشفافية والإصلاح الإداري باعتبارهما تجسيداً للإيمان العملي.
خاتمة
إن حب العراقي لوطنه هو طاقة تاريخية وإيمانية قادرة على تجاوز كل الصعوبات إذا ما تم توظيفها ضمن مشروع وطني متكامل. وإذا نجحت القيادات الوطنية والدينية في توحيد الكلمة حول هذا الحب، فإن العراق يمكن أن يستعيد دوره الريادي كمنارة حضارية وإنسانية. فالإيمان والوطنية متكاملان، ومن خلال هذا التكامل تُبنى الدولة العادلة التي يعيش فيها العراقي بكرامة ورفاهية.