ترامب وإستدعاء القومية المسيحية كطريق للعودة إلى البيت الأبيض
منار هايس
يخوض المشهد السياسي الأمريكي قبيل انتخابات عام 2024 حالةً من التحول العميق، لا يمكن فهمها دون التوقف عند الدور المتعاظم للتيار القومي المسيحي في إعادة تشكيل ملامح الحزب الجمهوري، ودون الإشارة إلى الطريقة التي يوظّف بها الرئيس السابق دونالد ترامب هذا التيار كرافعة فكرية وشعبية للعودة مجددًا إلى سدة الحكم.
منذ خروجه من البيت الأبيض عام 2021، لم يتعامل ترامب مع الهزيمة بوصفها نهاية لمسيرته السياسية، بل كبداية لمعركة هوية. فقد سعى إلى تصوير نفسه لا كمجرّد سياسي محافظ، بل كـ”زعيم رسالي” يقف في مواجهة قوى العولمة والتعددية الثقافية والعلمانية التي، بحسب خطابه، تهدد “الروح الأمريكية الأصيلة”.
هذا الخطاب أعاد توجيه الوعي الجمعي لقطاعات واسعة من الأمريكيين البيض — خصوصًا الإنجيليين — الذين شعروا بأنهم فقدوا امتيازاتهم في ظل التحولات الديموغرافية والاجتماعية.وهكذا، صاغ ترامب سردية جديدة مفادها أن أمريكا تُسرق من داخلها، وأن استعادتها تتطلب عودة الإيمان، والسلطة، والهوية المسيحية إلى مركز المشهد.القومية المسيحية ليست ظاهرة جديدة في التاريخ الأمريكي، لكنها كانت دومًا تيارًا ثقافيًا أكثر من كونها مشروعًا سياسيًا منظّمًا. غير أن عهد ترامب غيّر هذه المعادلة؛ فقد جرى تسييس الدين على نطاق غير مسبوق، وتحول الإيمان من رابطة روحية إلى أداة لتعبئة سياسية. وبذلك وظّف القومية المسيحية في العملية السياسية لتنتقل من الهامش إلى المحور.ويتجلى ذلك في الخطاب الذي يربط بين المسيحية والوطنيّة، وبين الدفاع عن “الإرث الأمريكي” ومقاومة ما يوصف بأنه “غزو ثقافي ليبرالي”. هذا الربط منح التيار القومي المسيحي بعدًا نضاليًا، جعله أقرب إلى حركة اجتماعية تعبّوية منها إلى مجرد تيار فكري.وبات من الواضح أن ترامب — بخلاف الجمهوريين التقليديين — لا يتعامل مع هؤلاء الأنصار كقاعدة انتخابية فقط، بل كـنواة أيديولوجية لمشروعه السياسي الجديد.إنّ تحالف الدين والسياسة ما هو الا إعادة لهندسة الحزب الجمهوري فما يقوم به ترامب في هذه المرحلة هو إعادة تعريف الحزب الجمهوري عبر دمج الخطاب القومي بالرمزية الدينية. فالحزب لم يعد في نظر أنصاره “يمينًا محافظًا” بالمعنى الاقتصادي أو الدستوري، بل “حركة خلاص” تسعى لاستعادة أمريكا “كما أرادها الآباء المؤسسون” — أي أمة مسيحية قائدة للعالم.
نزعة دينية
لقد ساهم هذا التحالف في إقصاء الأصوات المعتدلة داخل الحزب، وتعزيز هيمنة الخطاب الشعبوي، الذي يجمع بين النزعة الدينية المتشددة والعداء للمؤسسات والنزعة المعادية للعولمة.وهكذا، صار ترامب بالنسبة لكثير من الجمهوريين أكثر من مرشّح: إنه رمز لهوية مهددة، يجسد الصراع بين “أمريكا القديمة” و”أمريكا الجديدة”.
تجاوز تأثير هذا التحول الحدود الداخلية. فصعود القومية المسيحية في الولايات المتحدة يغذّي بدوره حركات يمينية دينية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، ويعيد تشكيل الخطاب الديني والسياسي عالميًا حول ثنائية “الهوية مقابل التعددية”.
وفي الداخل الأمريكي، يثير هذا التوجه مخاوف متزايدة من تآكل مبدأ الفصل بين الدين والدولة، ومن إعادة إنتاج الانقسامات الثقافية والعرقية داخل المجتمع الأمريكي على أسس دينية.تتجلى صورة ترامب والرهان الأخير مع اقتراب الانتخابات، ويبدو أن ترامب يدرك أن رهانه على الاقتصاد أو السياسة الخارجية لن يكون كافيًا، وأن ما قد يعيده فعلاً إلى السلطة هو إحياء النزعة الرسالية في السياسة الأمريكية. إنه يخوض معركته باعتبارها “معركة مقدسة” بين الخير والشر، مستثمرًا رمزية الإيمان في توحيد القاعدة اليمينية حوله، وتكريس صورته كمنقذ للأمة.لكن هذا الرهان ينطوي أيضًا على مخاطر كبيرة: فنجاحه يعني رسوخ نمط جديد من الحكم يقوم على الشرعية الدينية-الشعبوية، وفشله قد يؤدي إلى انقسام ثقافي غير مسبوق داخل المجتمع الأمريكي.
في الختام ..إن محاولة ترامب العودة إلى البيت الأبيض ليست مجرد حملة انتخابية، بل هي معركة فكرية وهوياتية تسعى لإعادة تعريف ماهية “أمريكا”.
من خلال التحالف مع التيار القومي المسيحي، يحاول ترامب بناء سردية بديلة لليبرالية الأمريكية، تجعل من الإيمان والهوية والدين مصادر للسلطة السياسية، لا مجرد مكونات ثقافية.فقد تكون نتائج هذه الانتخابات — أياً كانت — لحظة فاصلة، ليس فقط في مستقبل الحزب الجمهوري، بل في اتجاه الديمقراطية الأمريكية ذاتها.