الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شاعر الأشجار سعد ياسين يوسف : الأشجار ليست مجرد مفردة بل رمز وجودي

بواسطة azzaman

شاعر الأشجار سعد ياسين يوسف : الأشجار ليست مجرد مفردة بل رمز وجودي

- الأشجار لا تُشبهنا في الكلام، لكنها تتفوق علينا في الحكمة.

- لا ارتفاع حقيقي دون جذور متينة، سواء في الشعر أو في الحياة.

 

عمان – مجيد السامرائي

 

تنطبق عليه أبيات الشاعر: "يا رب حتى في الحدائق أعينٌ عليّ

وحتى في الرياحين نمّامُ والأشياء تشفّ عمّا تحتها".

هو مولع بالأشجار، ولذلك هو مبتدأ وأكثر من خبر... دكتور سعد ياسين يوسف، أهلاً بك.

أنت الآن بين غابة من الأشجار، تحيط بك من كل جانب وكل اتجاه؟

- نعم، الأشجار دائماً ما تظلّلني حينما أحتاج إلى الظل، وهي تحيط بي روحاً وذاكرة وامتدادا.

الأشجار تحلّق عميقاً... ألا ترى أنها أكثر من مجرد امتداد رأسي؟

- الأشجار تحلّق عميقاً لأن التجذّر أهم من الارتقاء، لا يمكن أن نصعد دون أن نغوص بجذورنا إلى الأعماق . التجذّر يمنح الشجرة قوّة في اندفاعها نحو السماء، وكذلك الإنسان... الشجرة هي المعادل الحقيقي للإنسان.

ولكن يقال: "الأشجار تموت واقفة"، فهل هذا صحيح؟

- من قال إنها تموت؟ ما دامت واقفة، فهي لا تموت. قد تمتد لها يد أو جذر من جهة ما وتعيد لها الحياة. الأشجار لا تعرف الاستسلام بسهولة.

تهب كل رياح الأرض عاصفة، والنخل لا تنحني إلا ذوائبه... لماذا تضع النخل في هذه المرتبة؟

- النخلة سيدة الشجر. والرسول قال: "أكرموا عمتكم النخلة"، فهي رمز الصمود والعطاء والكرامة. حينما أقول "الشجر"، فإنني أعني النخيل أيضاً، لأنه حاضر في طفولتنا، في بيوتنا، في وجداننا.

هل لديك ذكرى خاصة مع شجرة نخيل معينة؟

- حين فتحت عيني في مدينتي، كانت هناك شجرة نخيل وسِدرة جنباً إلى جنب. لا أدري لماذا اجتمعتا، لكن كان بينهما تفاهم خفي، كأنهما توأمان تربيا في فناء القلب.

يقول خضير هادي: "على كيفك يا ابن الناس لا تتكبر على الفقرة، واخذ من النخل عبرة، يموت وما ينزل راسه"... ماذا تقول؟

- هو وصف دقيق للنخيل حتى وإن قُطع رأسها، تبقى شامخة، وهذا ما يوجع القلب. أن ترى الشموخ يُذبح في وضح النهار.

ذكرت شارع المصافي... ما الذي يحزّ في نفسك هناك؟

- أشعر بالألم حين أرى رؤوس النخيل مقطوعة في تلك المساحات الواسعة. هي ليست مجرد أشجار، بل ذاكرة وهوية وامتداد حياة، وغيابها يترك فراغاً في الروح.

لو كان القرار بيدك، ماذا كنت ستفعل لتعويض هذا الغياب؟

- كنت أتمنى أن تكون هناك حملة دائمة: كلما قُطعت شجرة، تُزرع بدلها عشرة . أن يبقى النخيل حاضراً في المدن والمجمعات، أن تكون لنا حياة تليق بظلال الأشجار.

ضيفنا اليوم واحد من أولئك الذين نقلوا نخيل العراق إلى العالم. سمعت أنه زرع فسائل نخيل في بنسلفانيا بالولايات المتحدة... هل هذا صحيح؟

- نعم صحيح، وقد أثمرت هناك بالفعل. رطب برحي، حقيقي. وهذا البرحي له حكايات... حتى في عمّان الآن يباع البرحي في الأسواق على أنه منتج أردني، لكن الحقيقة أن فسائله أخذت من العراق، وزُرعت في غور الأردن، ونجحت، وبارك الله هذه الخطوة كي لا يندثر هذا النوع الذي هو من ثمار الجنة.

العمارة... موطنك الأول... مدينة النخيل؟

العمارة مكان مشرق دافئ بالنخيل، بل هي شبه جزيرة تحيط بها المياه من كل جانب. دجلة يدخلها، ويتفرع منه نهر الكحلاء والمشرح، ثم شط العمارة، تحاصرها البساتين، تحضنها أشجار النخيل، ولذلك حين كنا طلاباً، كنا نذاكر في ظلها، في هدوئها، هناك راحة وسكينة لا توصف.

العمارة، أخت البصرة... أم النخيل؟

- هي أم النخيل في العراق كلها. من يزرها يدرك معنى الخضرة التي تنبض من الأرض، والتي تعطي دون أن تنتظر شيئاً.

أنت أيضاً تكتب سيناريو، اشتغلت معنا في قناة الشرقية، وأذكر أن طفولتك كانت حاضرة في بعض تلك النصوص. هل عشت فعلاً تجربة الخطف في طفولتك؟

 

 

 

- نعم، حين كان عمري أربع أو خمس سنوات. كنت مع أمي في السوق الكبير نشتري ملابس العيد، وفجأة، امرأة غجرية خطفتني. أمسكت بيدي ولفّتني بعباءتها. أمي حينها ظلت تركض في السوق، تصرخ وتبكي. كانت ساعات من الفقد والذعر... لم تُمحَ من ذاكرتي.

هذا الحدث ألهمك لكتابة قصيدة، أليس كذلك؟

- نعم، كتبت قصيدة اسمها "شجرتها". سميتها هكذا لأنها شجرتي الأولى... أمي. وهي قصيدة تمزج الحريق والضياع والحب... لأنني أيضاً حين كان عمري عامين، أُصبت بحروق شديدة في وجهي بسبب الماء المغلي.

 

نود أن نسمعها...

            شجرتُها....

-  إلى أُمّي ....

معَ أوّلِ صرخةٍ

وأوّلِ إبصارٍ للنورِ

كانتْ خضرتُك تُربّت على صدري

أنْ لا تخفْ....

وكلَّما أدلهمَّ ليلٌ

أضاءتْ أغصانُ شجرتِكِ قناديلَ

البهجةِ

فتنطلق الكركراتُ....

ناعمةً بيضاءَ

مثل رفيفِ نوارسِ شطِّ العمارةِ

حتى علتْ وجهي سَحابَة ُ

الحريق*... في غفلةٍ منكِ

وحينَ رفعتِ يديكِ إلى السَّماء

زمجرَ الأفقُ بالبريقِ

وبصوتٍ راعدٍ

قالَ للشَّمسِ: أنْ أشرقي على مُحياهُ

وكمثلِ معجزةٍ نَضَى الغيمُ ثوبَهُ

فانتشرَ الضِّياءُ.....

وهكذا كلّما مرتْ بروحي سحابةٌ

لذتُ بكِ أنِ ارفعي يديكِ،

وتمتمي بما أعرفُ، ولا أعرف

وارتقي سُلَّم التَّمتماتِ المُقدَّسةِ

..... ....

فبها ما يُوصلُ نبضَكِ إلى السَّماءِ

مثلما الهلاهلُ التي كانتْ تصعدُ

  لسماءِ المحلةِ كلّما عدتُ رافعاً يديَ

بالبشارةِ.....

كانتْ أناملُكِ

تُرتّبُ شكلَّ العيدِ وترسمهُ

على ملابسي.... بالمسكِ والقرنفلِ

ولم أكُ أعلمُ

أنَّ قلادتَكِ التي صاغها أبي

تفقدُ كلَّ عيدٍ

واحدةً من "ليراتِها" الذَّهبيَّة

لتصيرَ قمصاناً وأحزمة ً جديدةً

فتستبدلينَ بريقي ببريقِها

وتزهرينَ كشجرةِ ياسمين...

كلّما مررتُ أمامَكِ قلتِ: هوذا!!!!

ومازالتْ لهفتُكِ محفورةً

على جدارِ ذاكرتي الغضَّةِ

يوم غرقتُ في زحمةِ السُّوقِ العتيقِ

 لتسرقَني عباءةُ الغجرِ*

كانَ الأسودُ يسرقُ صوتَي

وكنتِ كمثلِ "هاجرَ" تبحثينَ عن بريقِ وجهي

وأنتِ تركضينَ بينَ "مروةِ" مدخلِ السُّوقِ

"وصفا "نهايتهِ

حتى أشارَ لي الواقفونَ وأخرجوني

   لينهمرَ نهرُ ضياعِك

يقيناً وعناقا....

وحينَ كبرتُ

كتبتُ القصائدَ لنساءٍ كثيراتٍ

ويا لجحودي!!!!

لم اكتبْ لك ِ

إلا السَّاعةَ بعدَ أنْ أدركتُ

أنَّ القصيدةَ التي

لا ترسمُ بريقَ عينيكِ

يا أُمّي....

صلاةٌ باطلةٌ

لن تبلغَ السَّماواتِ.

قصيدة مفعمة بالمشاعر... يبدو أن للأشجار أيضاً قصائدك الخاصة ؟

- الأشجار أشعار تكتبها الأرض، وأنا أحاول أن أفكك لغتها الكونية، أقرأ

 تموّجاتها، وأستمع لحواراتها. كلما أثقلني الحزن، آويت إليها. هي أمّي الأخرى.

يُقال إنك نلت جائزة أعلى من نوبل... جائزة الشجر حين دُوِّن اسمك بين أشجار الأنبياء؟

- ربما هي محبة الشجر منحتني هذا اللقب. أنا فقط كتبت... وسمعت الشجر يهمس لي: اكتبني. فكتبت "شجر الأنبياء"، وكتبت "الأشجار لا تغادر أعشاشها"، لأن الأشجار، مثلي، تبحث عن جذر، عن وطن، عن ظلّ يسكنه الضوء.

هذه الكتب مصطفّة أمامنا كأنها أشجار... عناوينها غريبة، بل آسرة: "أشجار وخريف محش"، "أشجار لاهثة في العراء"، "الأشجار تحلّق عميقًا"، "لا تغادر أعشاشها"، "شجر الأنبياء"... ما سرّ الأشجار في عناوينك؟

- الأشجار ليست مجرد مفردة بل رمز وجودي. حينما أكتب عنها، فأنا أكتب عن الإنسان، عن الوطن، عن الحنين، عن الحياة بكل تقلباتها. كتبي تنتظر كما تنتظر الأشجار حلول المطر.

"أشجار وخريف موحش"... هل لهذا العنوان علاقة بالربيع العربي؟

نعم. حين اندلع ما سُمّي بالربيع العربي، تابعته بعين الشاعر لا السياسي. رأيت كيف تحوّل ربيع الشعارات إلى خريف دامٍ، خريف موحشّ بالفعل، أولئك الذين أشرعوا صدورهم للرصاص لم يجدوا ربيعًا... بل وجدوا موتًا مريرًا.

أما "أشجار لاهثة في العراء"، فالعنوان موحش... إلى أي زمن يأخذنا؟

إلى سنوات احتلال داعش. كانت البيوت تفرّ من النيران، العوائل تُقتلع كما تُقتلع الأشجار، وتُرمى في صحراء قاحلة، بلا ظل، بلا جذر، بلا ماء... هناك وُلدت هذه القصائد، من رحم العراء. كانوا كالأشجار اللاهثة، تستنشق الغبار وتنتظر الرحمة.

"الأشجار تحلّق عميقًا"... ما معنى هذا التناقض الجميل؟

- المألوف أن الأشجار تحلّق عاليًا، لكني كشاعر لا أضيف شيئًا إن كرّرت المألوف. قررت أن أمنح التحليق عمقًا، أن أجعل الجذر أكثر بلاغة من الغصن، لأن لا ارتفاع حقيقي دون جذور متينة، سواء في الشعر أو في الحياة.

"لا تغادر أعشاشها"... هل تمثل هذه المجموعة تجربة الغربة؟

- تمامًا، هذه المجموعة تتناول الهجرة من الوطن. أوجه فيها النداء إلى الكفاءات والمبدعين أن يعودوا. فالعراقي، حتى إن غادر، لا يستطيع مغادرة العراق من ذاكرته. الوطن يتحوّل إلى صوت لا يغادر الرأس، يرافقه حيثما ذهب.

"شجر الأنبياء"... عنوان يفتح بوابات التأمل، ماذا يحمل في داخله؟

- العراق أرض الأنبياء. فيها كل شيء نبيّ أو حفيد نبيّ. وفي البصرة، عند التقاء دجلة بالفرات، هناك شجرة تُنسب إلى آدم. يعلّق الناس عليها الأمنيات، الخيوط، الأقمشة... تسمّى "شجرة آدم"، هي صورة رمزية للطوطم، وهي التي أوحت لي بقصيدة "شجرة النزول".

قصيدة "شجرة النزول"... ما الذي أردت أن تقوله فيها؟

- أردت أن أستعيد لحظة رمزية: لحظة هبوط النخلة من الجنة إلى أرض العراق. تخيّلت حوارًا بين الخالق والنخلة. النخلة تسأل ربّها أن تختار أرضًا لتهبط فيها، فيختار لها العراق... أرض الأنبياء، أرض الحروب، والدمع، والحنين.

هل يمكن أن نسمع مقتطفًا منها؟

- بكل سرور، تقول النخلة:

Ø   قالت:

ربِّي، اخترْ لي أرضًا

أنثرُ فيها من رحم قبائل خُضرة

يعلو فرعي ثانية نحوك

...

قال: اخترتُكِ شاهدة

شاهدةً الوأد، الطلقات

إذا ما مرّت وهي تردد أسماء مضيفها فوق النهرين

... يا عمتنا، عذرًا

فمدائننا رمل،

ما عادت تنفعها الصلوات.

إذًا، شجرة بأمرٍ من الأرض؟

- نعم، وأنا أقف على أرض العراق. الإنسان العربي الأصيل هو الشجرة... يمسك بالصحراء كي لا تبتلعه. يدور على أرضه لا يغادرها، يحيا بها ولها.

على أي أرض يقف سعد ياسين، اليوم؟

- أقف على أرض القصيدة، لكن جذري في العراق. والقصيدة هي الشجرة التي أظلل بها جرح الوطن وأحلامه.

ماذا تقول لكل من اقتلع من جذره قسرًا، ووجد نفسه في العراء؟

- أقول: لا تيأس. الشجرة التي اقتُلعت يمكن أن يُعاد غرسها. المهم أن نحمل البذرة فينا، بذرة العودة، بذرة الحنين، بذرة الحياة... فالوطن لا يُنسى، حتى حين نغادره، هو يظل مزروعًا فينا.

ولكنك الآن على أرض لا نخل فيها، أليس كذلك؟

- صحيح، لا نخل فيها... لكن النخل يأتي بعد حين. الحضارة حين تنشأ وتُلقي بشباكها في بحر الحياة، سيكون هناك نخيل، وسيكون هناك إبداع وجمال. فالأرض التي لا نخل فيها... تنتظر الشاعر كما ينتظر البستان المطر.

إذن صرت مثل من عنده "بشام" لكن لا نخل لديه...

- تمامًا... وربما يكون الشعر هو النخل المؤجل، نغرسه بكلمات ونرويه بالصبر.

هناك ديوان شعر كأننا مررنا عليه مرورًا عابرًا... هل ظلمناه؟

- نعم، تقصد ديواني الأخير: "أشجار بلون الهديل"، هذه آخر مجموعتي الشعرية، صدرت في نهاية هذا العام.

"بلون الهديل"؟ تعبير غريب... ماذا يعني؟

- استعارة للصوت... بل هو استبدال الصوت بالصورة. الهديل صوت، والصورة أيضًا تصير صوتًا حين يُحسن الشاعر رسمها. هذه المجموعة كتبتها خلال السنتين الماضيتين، وقد لاقت اهتمامًا نقديًا كبيرًا سواء في الندوات أو عبر منصات مثل "زووم"، أو في اللقاءات الجامعية.

في أوراقك أيضًا علامات صفراء... خطوط لامعة... كأنها من كتاب "مميز بالأصفر".

- هي كذلك... هذه أوراق كتبت فيها ملاحظات ودراسات وتأملات عن الأشجار، عن الحياة السرية للأشجار.

هل للأشجار حياة سرية فعلًا؟

- بالتأكيد. الأشجار ليست مجرد صامتة خضراء. لها لغة، لها شبكة تواصل، لها ذاكرة، بل وتعلم وتُعلِّم.

كيف تتكلم الأشجار وهي بلا صوت؟

- تتكلم بالعطر، ترسل روائح معينة للأشجار المجاورة، فتفهمها وتتفاعل معها. وحين تكون هناك شجرة ضعيفة وسط بستان، تمدّ الأشجار المجاورة جذورها لتغذيها سرًّا تحت الأرض، حتى تنضج وتقوى.

الأشجار تتكافل اجتماعيًا إذًا؟

- نعم، تتعاون وتُشبهنا في المجتمعات الراقية. ومن جهة بيئية، فهي تنظم حرارة الجو، وتحافظ على التوازن المناخي. الأشجار لا تُشبهنا في الكلام، لكنها تتفوق علينا أحيانًا في الحكمة.

ذكرت أن الأشجار تغترب أيضًا؟

- الأشجار المغتربة، حين تُنقل من بيئتها الأصلية إلى بيئة جديدة، تواجه تحديًا: إما أن تموت، أو تتأقلم وتتجذر وتصبح أقوى. تمامًا كما الإنسان.

وتقول إنها تُرسل رسائل مشفّرة من تحت الأرض؟

- نعم، من خلال شبكة من الفطريات تعيش معها في علاقة تشاركية، تستطيع أن تنقل تحذيرات ومعلومات إلى الأشجار القريبة، إذا كان هناك خطر، أو مرض، أو عدو يهدد الغابة.

وهل تتعلم؟

- الأشجار تتعلم... بل وتُعلِّم. بعض الدراسات الحديثة أثبتت أن الأشجار قادرة على حفظ التجربة، وتعديل سلوكها بناءً على ما مرت به. هي كائنات تُعيد كتابة نفسها بصمت.

ما الذي يجعل شاعرًا مثلك ينحاز إلى الأشجار بهذا الشكل العميق؟

- لأن الأشجار لا تخون. لأنها صادقة، متأملة، عميقة، تشبه القصيدة الحقيقية: جذورها في الأرض، وأغصانها في السماء، وظلالها في القلب.

ماذا علمتك الأشجار؟

 

- علمتني كل شيء. علمتني التسامح، أن أعطي بلا مقابل، أن أقف شامخًا رغم الرياح، علمتني أن أكون ظلًا يستظل به المتعبون دون أن أطلب شيئًا، وأن أترك أثري حتى بعد رحيلي.

وهل ترى أنها تعلّم الناس أيضًا؟

- الأشجار مدرسة كونية تعلم الناس الإخلاص، الصبر، التسامح، والقدرة على التجدّد. تكفي نظرة إلى شجرة واحدة لتفهم درسًا في الحياة.

لنتوقف عند "الشجرة القتيلة" للفنان جواد سليم، ما حكايتها؟

- هذه قصة مؤلمة. في يوم عيد الشجرة، كان جواد سليم عائدًا إلى منزله في الوزيرية، فشاهد فلاحًا يقطع شجرة بفأسه، بطريقة قاسية، جائرة. صرخ به: "ما الذي تفعله؟!"، لكن الشجرة كانت قد سقطت، أوراقها وغصونها على الأرض... فحمل سخطه إلى لوحته، ورسم "الشجرة القتيلة".

كيف عبّر عن هذه الفكرة في اللوحة؟

- رسم الفلاح بشكل قاسٍ، جسده منحني إلى الوراء ليؤكد على قوة الضربة، والفأس مرفوعة. أما الشجرة، فقد رسمها كجذع امرأة تميل نحو جهة في اللوحة، ووضع بقعة حمراء في الأعلى، دلالة على أنها نزفت... نزفت دماً. إنه تماهٍ بين المرأة والشجرة، صرخة فنية لحماية الجمال، لحماية الحياة.

هل تتقبل الأشجار العزاء؟

- كيف تتقبله، ونحن نقتلها ونقطعها؟ العزاء لا يكون إلا لمن يحترم الحياة. والشجرة، في رمزيتها، تحتج علينا، بصمتها، بغيابها، وبدمها الأخضر.

أنت شاعر... كلما أراد أن يعي معنى الحياة، حدّق في دمه الأخضر؟

- نعم، في دمي الأخضر، الذي ورثته عن سدرتي الأولى، عن نخلة العمارة، عن غابات النهرين. قصائدي تنبت من جذع الذكرى، من تربة الحنين. وأنا حين أسافر، أؤنسن الأشجار، أجعلها رفيقتي، دليلي، مرآتي.

وهل تكتب بلغة الكلوروفيل؟

- جميلة هذه العبارة. نعم، ربما إذا خدشت يدي، سال منها كلوروفيل... اللون الأخضر في شعري ليس متعمّداً، بل متغلغل، يخرج دون إذن، يتسلل إلى المفردات، إلى التشبيهات، إلى النَفَس كله.

حدثنا عن تلك القصة العلمية التي أعجبتك كثيرًا، عن جذع الزان المقطوع.

أ‌-      حد الباحثين في علم الغابات وجد صخرة في غابة، اقترب منها، فلاحظ أنها جذع شجرة "زان"، مقطوعة منذ أكثر من 400 سنة. كان يفترض أن يكون ميتًا. حاول اقتلاعه فلم يستطع. شقّه، فوجد بداخله كلوروفيل... أي أن الجذع حيّ! كيف؟ اكتشف أن جذور الأشجار المحيطة به التفت حوله، ومنحته الحياة من جديد. هذه ليست بيولوجيا فقط، بل حكمة كونية.

"الدم عندك أخضر"... أهذا صحيح؟

- قد يكون كذلك. ربما أنا لست شاعرًا فقط، بل شجرة. لذلك حين أطلق عليَّ النقاد لقب "شاعر الأشجار"، لم أكن منتبهًا أنني أكتبها، وأسكنها، وأعيشها... حتى تنبّهوا هم، وأطلقوا عليَّ اللقب في جلسة جميلة في شارع المتنبي، عنوانها كان: "الأشجار ثيمة في شعر سعد ياسين".

هل تختم لنا بشيء من شعرك "؟

- بكل سرور...

 

  تحت المطر

 

تحتَ المطرِ...

كلُّ شيءٍ يشتعل

الأشجارُ...

 بزيتها اللامعِ

تحتَ وميضِ البرقِ...

الأزهارُ....

 بجيوشِ عطرِها

الجدرانُ...

 تكتسي بسحنةِ خجلِها الأولى

الشوارعُ....

 تستعيدُ ليلَها المزهوَ

بمصابيحهِ

كوجهِ أفريقيةٍ

تزينتْ بالأحمرِ القاني،

بيوتُ القصبِ....

تسرفُ بنشرِ صفائحِ الذَّهبِ

التي سرقتْها من الشَّمس ِ،

البَردِيُّ الأخضرُ

يتلألأُ بنثيثِ المطرِ

على صدرِ زوارقَ عادت

متعانقة ً...

العشاقُ الذين لا يملكونَ من أرصفةِ المدنِ

سوى قصائدِهم المبللة ....

يحثون الخطى

عبر الطَّريقِ الصَّاعدِ إلى السَّماءِ

ودونَ أيّ اكتراثٍ

تتبادلُ مظلاتُهم القبلاتِ

إلاّ أنا .....

فالمطرُ لا شغلَ لهُ

إلاّ بتذكيري بمظلتي التي

سرقتها الرِّيحُ ...

وتركتني مثلَ

تمثال ٍقديم ٍ

على ناصية ِشارعٍ

أنهكتهُ الحروب!!!

سعد ياسين يوسف بماذا تشعر الآن ؟

- كل ٌ يعزف موسيقاه

ويرحل ..

البحر بمفرده يعرف

منْ مِنا

تُعزف أنغامه ُ

من قلبه أو من شفتيه

فهو الفيصل ...

 

 


مشاهدات 684
أضيف 2025/07/30 - 3:06 AM
آخر تحديث 2025/08/02 - 11:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 374 الشهر 1109 الكلي 11276195
الوقت الآن
السبت 2025/8/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير