حين لا تعود الحياة كما كانت
العراق بين شظايا الحرب العالمية الجديدة وإرث الدولة العميقة
إسماعيل محمود محمد العيسى
في أحد مشاهد مسلسل الكرتون الشهير عدنان ولينا، يقف عدنان مذهولًا أمام مدينة مدمرة، وقد أُبيد كل شيء بفعل “الحرب الكبرى” يسأل جده عن سبب هذا الدمار، فيجيبه: “الناس صنعوا آلات الموت بأيديهم، وعندما انفجرت، لم تبقِ ولم تذر…”. تلك القصة الخيالية كانت تنذر بما قد يكون واقعًا الآن، بعد أن أصبح العالم على حافة حرب إقليمية قد تتحول إلى عالمية، حيث تتبادل إيران وإسرائيل الصواريخ، وتدخل أمريكا كلاعب ناري مباشر ؛ لكن، ماذا عن العراق؟ البلد الذي لم يشفَ بعد من جراحه، هل بقي في قلب الجغرافيا أم أصبح هامشًا في صفحات التاريخ؟
النظام السياسي في العراق يواجه مرحلة احتضار بطيء، ليس فقط بسبب أخطائه البنيوية، بل بسبب الانفصام الكامل بين الطبقة السياسية والشعب؛ النظام القائم منذ 2003 قائم على التوافق الهش لا على الكفاءة، على المحاصصة لا على الشراكة الوطنية، وعلى ردّ الفعل لا على التخطيط الاستراتيجي، ومن أهم التحديات التي يواجهها العراق اليوم: فقدان الثقة الشعبية التام، اختلال العلاقة بين المركز والمحافظات، الفساد البنيوي وهيمنة قوى اللادولة، وهشاشة السيادة أمام التدخلات الخارجية، والسؤال الموجِع الآن: هل انتهت صلاحية النظام السياسي؟ الجواب المعقّد هو: إذا استمرّ بنفس النهج، فالوقت قد فات، أما إذا حدث تحوّل جذري، فقد نكون أمام ولادة متأخرة لجمهورية حقيقية.
الضربة الأمريكية – الإسرائيلية للمفاعل النووي الإيراني ليست مجرد “حدث إقليمي”، بل بداية لإعادة تشكيل خارطة المنطقة، والعراق أول المتأثرين، داخليًا وخارجيًا، داخليًا؛ فإن ازدياد الهجمات المتبادلة بين الفصائل المسلحة والقواعد الأمريكية، وتصاعد التوتر الطائفي والمناطقي، واختناق الاقتصاد بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز والغذاء عالميًا، كلها إشارات إلى هشاشة الداخل العراقي أمام أي اضطراب إقليمي، أما على المستوى الدولي، فإن ضعف الخطاب الدبلوماسي العراقي، وغياب موقف رسمي متزن يوازن بين السيادة والتزامات الحلفاء، يجعل العراق في موقع المتفرج رغم أنه يدفع الثمن، وسط خطر حقيقي أن يُستخدم العراق ساحة بديلة في صراع لا ناقة له فيه ولا جمل.
في ظل تصاعد التوترات الإقليمية وانعكاساتها المحتملة على الداخل العراقي، أصبح من الضروري أن تعتمد الدولة العراقية خطوات مدروسة وعقلانية، تقوم على مبدأ الحفاظ على السيادة، وحماية المجتمع من تداعيات الصراع، وتحييد العراق عن محاور التصادم العسكري والسياسي، وهو ما يتطلب إدارة حكيمة ومتوازنة للأزمة بعيدًا عن الاصطفاف والانفعال، من المهم اعتماد سياسة خارجية نشطة ومتزنة، تقوم على مبدأ الحياد الإيجابي وعدم التدخل، مع تعزيز العلاقات مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية بما يخدم استقرار العراق، يمكن للحكومة العراقية أن تقوم بتحريك أدواتها الدبلوماسية عبر وزارتي الخارجية والدفاع، والسفارات، من خلال فتح قنوات حوار بناءة مع الدول ذات التأثير المباشر في المشهد الإقليمي، والسعي لطرح مبادرات تهدئة تستند إلى موقع العراق الجغرافي والتاريخي كحلقة وصل لا كساحة صراع، لا بد أيضًا من تعزيز الجبهة الداخلية عبر التهدئة المجتمعية والإعلامية، وذلك بالتصدي لمحاولات التحشيد الطائفي أو التجييش الشعبي، من خلال ضبط الخطاب الإعلامي الرسمي، ودعوة المؤسسات الإعلامية كافة إلى توخي الدقة، والابتعاد عن نشر الشائعات أو الترويج لخطابات الكراهية، كذلك ينبغي تشجيع دور المؤسسات الدينية والعشائرية والتعليمية ومنظمات المجتمع المدني لتقديم خطاب عقلاني يُجنّب الشارع الانقسام ويعزز الوحدة، ويتوجب على الحكومة تفعيل آليات العمل الخدمي والإداري بصورة طارئة وفاعلة، لضمان استقرار المدن والقرى، وتوفير الاحتياجات الأساسية من كهرباء وماء وغذاء وأدوية، وتعزيز ثقة المواطن بالمؤسسة الرسمية، لا سيما في المناطق التي قد تتأثر بأي تذبذب في الأوضاع الإقليمية، هذا لا يحتاج إلى موارد استثنائية بقدر ما يحتاج إلى إدارة رشيدة وتوزيع عادل ومتابعة ميدانية، ومن المهم كذلك تمكين الحكومات المحلية والمجالس البلدية والمجتمعية من أداء دورها التنسيقي والخدمي، عبر فتح خطوط تواصل مباشرة بينها وبين المواطنين، وإشراكها في التخطيط المحلي، لتكون جزءًا من الحل لا من التهميش، كما يمكن دعم المجالس المحلية بإشراك وجهاء المناطق، والشباب، والنساء، في لجان متابعة مجتمعية تُعنى بالاستجابة السريعة لأي طارئ، ويجب أن يكون هناك دعم للمسار القانوني والمؤسساتي في إدارة الملف الأمني، من خلال الالتزام بالدستور والقوانين، وضمان حصر السلاح بيد الدولة، وتحقيق التوازن في التعامل مع التحديات الأمنية، هذه الإجراءات لا تتطلب تصعيدًا أو صدامًا، بل تتطلب التدرج والحكمة والاستناد إلى القانون باعتباره المرجع الأعلى، كما أن من المهم تفعيل مراكز الدراسات والبحوث الوطنية وربطها مباشرة بمكاتب القرار، للاستفادة من التحليلات والتوصيات التي تُبنى على قراءة دقيقة للواقع المحلي والإقليمي، بعيدًا عن الارتجال أو القرارات الانفعالية.
إن مواجهة العراق لهذا المنعطف الخطير تتطلب أن تكون خطوات الدولة واقعية، شفافة، وشاملة، لا تعتمد على الحلول الأمنية فقط، ولا تنغلق في زاوية سياسية ضيقة، بل تنفتح على المجتمع، وتعزز ثقة المواطن، وتحصن الداخل من التمزق والانجرار إلى صراعات أكبر من طاقته.
أما عن دور السياسيين ومنظمات المجتمع المدني، فإن السياسي الوطني اليوم ليس من يُجيد الخطابة، بل من يتحمل المسؤولية، منظمات المجتمع المدني يجب أن تتحول من واجهات ناعمة إلى أدوات ضغط وتخطيط مجتمعي حقيقي، وعلى القوى المجتمعية أن تتجاوز الطائفة والقومية لتبني “شبكة أمان وطنية” من الجامعات والنقابات والعشائر والشباب، هذه اللحظة ليست لحظة مجاملة، بل لحظة مراجعة وطنية شاملة.
الحكومات المحلية بدورها يجب ألا تكون مجرد بلديات تبحث عن مشاريع ترقيعية، بل مجالس قادرة على قراءة الواقع وامتصاص الأزمات، المجالس المحلية يجب أن تستعيد روحها، لا ككيانات خدمية فقط، بل كـ”مستشعر مبكر” لأزمات الشارع، تبني شراكات مع المجتمع، وتطور آليات تواصل مباشر مع المواطنين، وتُنظّم ندوات مجتمعية للحوار والتوعية بطرق مبسطة، كما أن مسؤوليتها تتضاعف في الأزمات، ليس فقط بإيصال الخدمات، بل بإيصال الحقيقة.
الحرب القادمة، إن وقعت، لن تكون كالحربين العالميتين من حيث الجغرافيا، لكنها قد تتجاوزهما من حيث الدمار بسبب التكنولوجيا، العراق ليس مضطرًا ليكون حجر شطرنج في لعبة كبار لا يعنيهم أن تبقى بغداد آمنة، الحل ليس في الانحياز لهذا المحور أو ذاك، بل في بناء دولة حقيقية تستحق أن تبقى، العراق لا يمكنه بعد الآن أن ينتظر المعجزات، ولا أن يُراهن على تسويات الآخرين، الجرح العراقي لا يُشفى بمراهم الوقت، بل بجراحة وطنية شجاعة، كما في عدنان ولينا، لا نريد أن نستيقظ بعد فوات الأوان، ونبكي على أنقاض المدن والفرص نريد أن نكتب قصة أخرى، مختلفة، لا تبدأ بالحرب، بل تنتهي بالسلام.