الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الهروب من المواجهة

بواسطة azzaman

الهروب من المواجهة

كامل عبدالرحيم

 

 أولئك الذين يهدرون أعمارهم في حانات منسية، هم يصنعون التأريخ. مهلا، هذه ليست حكمة أو مقولة قرأتها في مكان ما، بل ولا أعنيها حقا، هي بداية ما.

كلما رأيت الممثل ليام نيسون، وهو من الذين أدخل معهم بمنافسة جري في مضمار البقاء، كلما أراه يتخذ مكانا منعزلا في حانة بلا عنوان أرى التأريخ يفيض من كأسه، كأسي القديم الذي ما نفد وكنت أعبؤه بالحكايات والخطط الثورية فأزيده بالدموع والاعترافات، أتمثل قوتي الغاربة تسري وتتجسد وتتجدد في أصلابي فأقول لماذا انطفأت ؟ وأقرر التوهج، مرة أخرى وفي الصباح.

في الصباح التالي أجدني أنا الحانة المهجورة، بلا جلاس ولا نادل ولا ضوء ينعكس على شراب مترع. أصابتني الشيخوخة وصرعتني وهزمتني، لن أستسلم.

أحيانا، أقول، حسنا فعلت فهذبت نفسك من الحسد والتباغض ومراقبة الآخرين، ومن قال ذلك، أنت حسود وحقود أكثر من أي وقت مضى، لكني أروضها، تلك المشاعر المريضة فلا تبدو أو لا تظهر إلا كتجاعيد تعصى على المساحيق.

أفكر أحيانا، لو أني عثرت أو صادفت أبي في حانة كونية نائية على درب التبانة فسيصفعني أولا براشدي قائلا، ماذا فعلت بنفسك يا ولد وثم يربت على كتفي فأنا لم أخرج من جلبابه أو معطفه.

لي ولدان، حيدر وجعفر، نكمل بعضنا مثل لعبة ميكانو وكل جزء من اللعبة يهرب من الأجزاء الأخرى لكنه ينتمي إليها وبالطبع يحبها، يحب تلك الأجزاء الأخرى.

جعفر أصغر الأولاد وأشد الهاربين بعدا، يتأملني وأتأمله من بعيد بعشق، بيننا قنينة نبيذ في منتصفها أو عبرنا فارتشفنا رقبتها الضيقة، ما يتبقى تنهيدة وفسحة وحرية، نتهاتف فنشتبك حبا وإعجابا، نحاول التطابق فنبتعد، من يهرب من الآخر يا جعفر.

في مكالمة العيد، كانت الشيخوخة بيننا، أراه يفكر بشيخوختي ويفر منها ولا يعلم جعفر أن التفكير بشيخوخة الآخرين هو شيخوخة مبكرة، لو كنت شابا فما فعلت غير مافعلته حين كنت كذلك، مؤاخاة كل الأشياء وكل الناس.

جعفر يقيم في المغرب كوطن بديل وحين حدثته عن عبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي وعبد الفتاح كيليطو وعبد اللطيف اللعبي وكما تلاحظون كلهم عباد لله في تجلياته، لمست استغرابا في ذلك وصدر مني ما أعجب جعفرا، قلت أن أهل الثغور والتخوم مسؤولون عن صياغة الهوية أكثر من ( المتروبول )، كان علي أن أشرح أيضا ماذا تعني الثغور والتخوم.

بغداد كمتروبول إسلامي وعربي تنتفخ بالأفياء والخراج والضرائب والقوة والثروة وككل سلطة تجنح للقمع والإكراه وميكانيزم الصراع يفرز معارضين، ضربت مثلا بالحركة الإسماعيلية والتي نشأت في المتروبول العباسي في أوج قوته، ولما اشتد التضييق هرب الدعاة والولاة الإسماعيليون غربا، صوب سلمية حلب وحماه وغربا بعيدا وأكثر نحو المغرب كملاذ آمن لتأسيس دولتهم الفاطمية، هذا الملاذ الآمن هو الذي يبلور الهوية والهوية تأتي وتأخذ معناها من الأضداد النوعية، أوصلت جعفر إلى نقطة الهباء الراهنة، حين فقدت بغداد وحتى القاهرة كل وعي بمركزيتها وأهميتها وبذاتها، أما الأطراف والتخوم سيكون عليها مثلما يفعل كيليطو، الحفاظ على كل ليلة من ألف ليلة وليلة في السوربون، بلغة الليالي العربية، مرة وبلغة المتروبول الجديد مرات.

رغم إعجابه، جعفر، قال بأنه لم يعد مهتما جدا بالصراعات والحروب الحالية وأفهمني أو فهمت بعد مشاهدتي لوصلة اليوتيوب التي أرسلها لي، بأنه يهتم بفكرة الخلود، أعطاني بعض رؤوس أقلامه لكني أرجأت الحكم حتى إكمال الوصلة.

في تلك الوصلة، هناك مركزية أخرى تتهدم وتتهدد، هي مركزية الإنسان في هذا الكون، يسرد ويقول صاحب الوصلة وهو أصغر عمرا من جعفر بأن الإنسان من أكثر الكائنات عجزا على البقاء ناهيك عن قوته التدمرية لبيئته الحافظة، كان جعفر وكذلك صاحب الوصلة يتحدثان عن قنديل البحر كنوع من الكائنات هو أقدم من وجود النوع الإنساني بملايين السنين وقد يبقى بعده بملايين أخرى، لم أفهم وصلة اليوتيوب جيدا وكان علي ترجمتها للعربية، لكن أنواعا كثيرة من الكائنات أو الحيوانات( ربما اللافقرية ) تمتلك ميزة تجديد خلاياها، والإنسان بالمناسبة يحاول دراستها ومحاكاتها، بعض أنواع أسماك القرش تعمر لبضعة آلاف من السنين، السلاحف تعيش حتى عمر المئتي سنة، أما قناديل البحر فخالدة، خلايا الإنسان الوحيدة التي تحاول الخروج من خريطتها أو مصيدتها الجينية فهي الخلايا السرطانية.

هل تشيخ الأفكار، هذا ما فكرت الكتابة عنه في البدء لكن جعفر جرفني نحو قناديله، هل تشيخ الأفكار وتتعفن الثورة ويتقاعد الثائر وتذوي وتخبو نيونات الحانات الملونة على الدروب الريفية.

ها أنا أنجح مرة أخرى بالهروب من موضوعي والهروب من المواجهةيا للنصر.


مشاهدات 84
الكاتب كامل عبدالرحيم
أضيف 2025/06/18 - 4:05 PM
آخر تحديث 2025/06/19 - 9:08 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 248 الشهر 12208 الكلي 11146862
الوقت الآن
الخميس 2025/6/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير