ديناميكية التراجيديا بين احتراق الفكر ووهج المعنى قراءة نقدية مركبة في نصوص النار للاديب علي لفته سعيد
عبدالكريم الحلو
التمهيد:
* ليس من قبيل المصادفة أن يختار الأديب علي لفته سعيد “النار” محورًا لنصه هذا؛ النار هنا ليست عنصرًا مجردًا من عناصر الطبيعة، بل تتحول إلى كينونة فلسفية/وجودية/صراعية تُختزل فيها معضلة القول، أزمة الفكر، وعقم التاريخ.
* " من نصوص النار” نصٌّ لا يُقرأ دفعة واحدة بل يُفتح كما تُفتح ملفات الأسرار: طبقة فوق طبقة، جملة بعد جملة، حتى ندرك أننا أمام تراجيديا متكاملة الأبعاد تتوزع بين الفرد، والمجتمع، والتاريخ، والرؤية.
أولًا: ديناميكية التراجيديا:
التفاعل المتسلسل
* التراجيديا هنا ليست حدثًا وقع في الماضي وانتهى،
* بل هي حدث مستمر يعمل وفق آلية ديناميكية:
* رأي يولّد قولًا،
* والقول يولّد حريقًا،
* والحريق يستدعي سردية تاريخية،
* وهذه السردية تعود فتؤجج العقل حتى ينفجر:
“فتفجّرَ الجمرُ
اشتعالًا في غاباتِ الناس”
* إنها سلسلة كارثية متصلة، تبدأ من الرأي وتنتهي بانفجار العقول، وبين البداية والنهاية تتماهى الحروف بالنار، والكتب بالنار، والعقول بالنار.
* إنها فكرة العدوى الثقافية التي تتحول إلى كارثة حضارية حين يُساء استخدام الفكر لصالح الصراع بدلاً من البناء.
ثانيًا: أزمة الامتحان: اختناق الحقيقة
في فوضى الآراء
* التراجيديا لا تكتمل إلا بوجود امتحان عسير للحقيقة، ولكن هذا الامتحان نفسه يثبت فشله:
“فبأيِّ الطُرُقِ تُمتَحَنُ الحقيقة؟”
* هذا التساؤل يكشف عن عبثية الفعل الإنساني في الوصول إلى الحق في ظل تناسل الأكاذيب وتكاثر التأويلات المزيفة.
* الامتحان يتحول من أداة كشفٍ إلى أداة قم وتشويه، حيث تُستخدم الآراء كوسائل هدم، وليس بحثًا عن جوهر الأشياء.
ثالثًا: التراجيديا والميتافيزيقا:
حين يتحول التاريخ إلى عبء
* تُضيف هذه القصيدة بُعدًا ميتافيزيقيًا للتراجيديا: إنها ليست فقط مأساة سياسية أو ثقافية، بل مأساة وجودية:
“يُوجِّهونَ الجمرَ
تحتَ ملابسِ التاريخ
يَرمونَ الأكمَةَ بالتاريخ”
* التاريخ هنا ليس سردًا أو توثيقًا، بل أداة قمع يُستخدم ضد الناس أنفسهم، حيث يصبح الوعي بالتاريخ عبئًا، لا سبيلًا للخلاص.
* إنها مأساة شعوب تقاتل نفسها داخل سردياتها، حيث “كلُّ شيءٍ مفتونٌ بالتاريخ”.
رابعًا: الذات التائهة: البحث عن بياض الحلم وسط سواد الحريق
* وسط هذا الجحيم، هناك محاولة فردية للخلاص:
“فلنا من الأحلام
ما يتّسعُ من البياض”
* التراجيديا لا تكتمل إلا بوجود هذا النور البعيد في الأفق، النور الذي يُشكل ديناميكية داخل الديناميكية: حركة مقاومة داخل حركة الهدم.
* الكاتب لا يغرق بالكامل في السوداوية، لكنه يرفض أيضًا الحلول الجاهزة
* (المُدوِّنون - الباحثون - المحقّقون - المؤرّخون - الصارخون).
* إنه يدعو إلى كتابة ذاتية خاصة، صافية، لا تعترف إلا بالحلم والبوح.
خامسًا: ديناميكية التشظي:
التفكيك الكامل للمقولات الكبرى
* الأديب علي لفته سعيد يمارس هنا عملية تفكيك شامل للمقولات الكبرى:
• التشكيك في قدرة الرأي على كشف الحقيقة.
• تحويل التاريخ إلى تهمة بدلاً من رسالة.
• هدم الانسجام المفترض بين “الطيور” و”أشكالها”، حتى الحجارة لم تعد قادرة على صناعة الجمال.
* هذا كله يدخل ضمن ما أسميه ديناميكية التراجيديا المتكاملة: حيث كل جزء من أجزاء البناء الفكري للمجتمع أصبح عنصرًا مساهمًا في تحقُّق الكارثة.
خاتمة: التراجيديا ليست قدَرًا
* هذه تراجيديا مفتوحة؛ ليست قَدَرًا نهائيًا بل هي فعل مستمر يمكن تغييره بكتابة الذات، وبإعادة توجيه الحلم:
“فلا فراغَ غيرَ القلوب”
* هنا تكمن ذروة الرؤية؛ أن الفراغ الحقيقي ليس فكريًا ولا سياسيًا بل وجدانيًا؛ ما لم تملأ القلوب بالصدق، ستظل النار تأكل العقول.
* " من نصوص النار” ليست قصيدة عابرة،
* بل مشروع رؤية.
تقييم النص السردي
لقصيدة “من نصوص النار”
أولًا: البناء السردي العام
* النص يعتمد أسلوب السرد الشعري التأملي، حيث تتماهى وظيفة السرد مع وظيفة الخطاب الشعري، في حركة مزدوجة بين وصف الواقع (السرد)، وتأويله (الشعر).
* لا يتّبع النص حبكة تقليدية بمعناها القصصي، لكنه ينقسم سرديًا إلى أربعة مقاطع سردية ضمنية:
1. مشهد الامتحان - الابتلاء (الرأي - القول - الحقيقة)
2. مشهد الانفجار (النار - الجمر - غابات الناس)
3. مشهد الفوضى (الأفكار، الأقوال، التاريخ)
4. مشهد الحلم والمواجهة الشخصية (أنا وأنت، الكتابة، الأحلام، البياض)
* هنا تُوظَّف بنية السرد في خدمة التراجيديا الشعرية، حيث تسير المقاطع من العام (الأمة - الحقيقة - العقول) إلى الخاص (الأنا - الأحلام - العلاقة بالآخر).
ثانيًا: التماسك السردي والانتقال
* الانتقالات بين المقاطع سلسة معنويًا لكنها فجائية شعوريًا؛ حيث ينتقل النص من الحديث عن الفوضى الكونية إلى النداء الشخصي:
* " فتَعالي - أنتِ وأنا نكتبُ ما تيسّرَ لنا من أعاصيرِ الأسرة”
* هذا التحوّل يعطي النص جرسًا سرديًا مفاجئًا لكنه مقصود فنيًا؛ لإحداث صدمة عاطفية لدى القارئ بعد أن أغرقه الكاتب في رماد العالم الخارجي.
ثالثًا: تقنيات السرد الشعري
1. التكرار:
تكرار كلمة النار في عدة مواضع خلق وحدة صوتية قوية تربط المشاهد ببعضها.
2. التقابل الضدي:
• النار × البياض
• الجمر × الأحلام
• التاريخ × الحاضر الحي
3. التكثيف الصوري:
استخدام صور مركبة مثل:
“يوجّهون الجمر تحت ملابس التاريخ”
هذا النوع من الصورة سردي/رمزي يحمل معنى القمع الفكري.
4. الغموض الجزئي:
النص لا يقدّم شخصية سردية واضحة (لا يوجد “بطل” بالمعنى التقليدي)، بل يعتمد على أنا شعرية جمعية، تمثل جموع الشعوب المقهورة.
رابعًا: الصوت السردي
* الصوت السردي :
* هنا من الداخل إلى الخارج؛ يبدأ من داخل الذات وينفجر باتجاه الجماعة والتاريخ والمصير.
• الضمير المستعمل:
“ أنا
أنتِ
هم”
• نقطة القوة:
الانتقال بين الذاتي والجماعي بشكل متداخل، مما يجعل النص متعدد الأصوات رغم وحدانية الكاتب.
خامسًا: القيمة السردية العامة
* النص ليس نصًا قصصيًا تقليديًا، لكنه نص سردي شعري فلسفي يُقدّم تجربة وجودية بأدوات شعرية.
قيمته تكمن في:
• التكثيف الرمزي
• التصعيد التراجيدي
• القدرة على خلق شعور بالحصار
الفكري والروحي
• ثم فتح نافذة أمل في النهاية
تقييم السارد في نص “من نصوص النار”
-------------------------------------
1. نوع السارد:
• سارد ضمير المتكلم الجمعي في أغلب النص، ينتقل أحيانًا إلى مخاطب مفرد (أنتِ)، ثم يعود إلى خطاب جماعي أو عام.
• السارد ليس شخصية فردية واضحة بقصة أو خلفية، بل هو صوت جماعي متماهٍ مع الهموم القومية والثقافية والاجتماعية، يحمل همّ الأمة ومآسيها.
2. وجهة نظر السارد:
• السارد ينقل وجهة نظر مباشرة، فلسفية، نقدية حول واقع الفكر والقول والامتياز الحقيقي في مواجهة الرداءة الفكرية.
• يتبنى موقفًا نقديًا حادًا تجاه الفوضى الفكرية والتاريخية التي تقتل الإبداع وتحرف الحقيقة.
• يمتلك وعيًا عميقًا بالمعاناة الجماعية، لكنه يختتم بنداء أمل وشخصنة العلاقة مع مخاطب محدد (الشاعرة، القارئ).
3. صفات السارد:
• واعٍ، متأمل، ناقد: يُدرك حجم الأزمة الفكرية، ولا يخشى التعبير عن ملاحظاته الحادة.
• ثوري، مُتحدٍ: يدعو إلى مواجهة الظلام الفكري والنار الكامنة في الحروف والعقول.
• حالم ومبدع في الختام، يُعيد الأمل في الكتابة والأحلام، وينفتح على المستقبل.
• عاطفي في النهاية عند مخاطبة “أنتِ”، يضفي بعدًا إنسانيًا شخصيًا على النص.
4. وظيفة السارد في النص:
• توضيح الصراع بين الحقيقة والرداءة، بين الإبداع والجهل
• نقل مشاعر الغضب والألم تجاه الواقع المعاصر.
• إثارة الوعي بدور الكلمة والكتابة كأدوات مقاومة.
• خلق جسر تواصلي مع القارئ أو المخاطب لتشجيعه على المشاركة في هذا الصراع.
5. تأثير السارد على النص:
• وجود السارد بضمير المتكلم الجمعي يُعطي النص طابعًا شعبيًا وجماهيريًا، يعكس حالة مجتمع بأكمله.
• تغير الضمير إلى المخاطب المفرد في النهاية يخلق لحظة درامية، وتحولًا في المزاج السردي من العمومية إلى الحميمية.
• يرسخ السارد حضورًا قويًا وواضحًا، مما يجعل القارئ يشعر بأنه يسمع صوتًا حقيقيًا ينقل واقعًا ملموسًا.
خلاصة تقييم السارد:
* السارد في “من نصوص النار” هو صوت جماعي ناقد، واعٍ، ومتحفز للثورة الفكرية، يعكس مأساة الثقافة والعقل في زمن مضطرب.
* هو ضميرٌ حيّ يُصرخ بالحقيقة وينادي بالأمل، يشكل عمودًا سرديًا يحمل النص على أكتافه بنجاح.
* السارد يقود القارئ عبر رحلة من الألم والاحتراق الفكري إلى مساحة من الأمل والكتابة المشتركة، مما يجعل النص سرديًا وشعريًا في آن معًا.