الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
انطفاءُ الجذور

بواسطة azzaman

انطفاءُ الجذور

كوثر قاسم الطباطبائي

 

جيلنا ليس قاصرًا عن الذكاء، ولا عاجزًا عن الطموح، ولا خائفًا من الجرأة. لكنه، وبكل صدق، يفتقر إلى كلمةٍ واحدةٍ، صغيرةٍ في حجمها، عظيمةٍ في أثرها…

المبدأ.

تلك الكلمة المُهمَلة، الثابتة، التي غابت عن تربيتنا كما تغيب الجذور عن أعين الناظرين، لكنها حين تُهمل، تذبل الشجرة مهما ارتفعت أغصانها وتفتحت أوراقها.

لم نعرف المبدأ في طفولتنا. لم يكن ركنًا في مناهج التعليم، ولا صدىً في مجالس الكبار. لم نسمعه في قصصهم، ولم نره يُترجم إلى مواقفهم. أما الجيل الذي سبقنا، فقد كان المبدأ لهم عصبًا حيًّا، ونبضًا حاضرًا في خياراتهم، في صرامة أولوياتهم، وفي وفائهم لما آمنوا به.

لكن، حين جاء وقت توريث هذا المبدأ، حدث الارتباك. بعضهم تردّد، وبعضهم ظنّ أن الزمن تغيّر، وأن المبدأ لم يعد ضرورة، بل ترفًا فكريًا في عالمٍ تزدحم فيه الخيارات وتتعدد فيه الأقنعة.

وهكذا، انطفأ الجذر وبقيت الفروع تتنازعها الرياح.

ما المبدأ؟

ليس رأيًا يُبدّل حسب المصلحة.

وليس شعورًا طارئًا يتلاشى مع تقلب المزاج.

ولا قناعة وقتية تُغري في الرخاء وتتلاشى عند الشدة.

المبدأ: ما لا يتغيّر بتغير الدنيا.

هو ما يبقى حين ينهار كل شيء.

هو الميزان حين تتعدد الخيارات، والبوصلة حين يضيع الاتجاه.

هو ما يجعل الإنسان إنسانًا، والموقف موقفًا، والقائد قائدًا.

جيلنا لا يحتاج إلى مزيد من العبارات المحفوظة، ولا إلى وصفات النجاح المعلّبة. بل يحتاج إلى نقطة أصل، إلى منبعٍ صلب يُرجع إليه حين تتنافر الطرق، ويحتكم إليه حين تتوه المعايير.

نحتاج إلى ما يُعيد ترتيب الأولويات.

ما يُعلّمنا أن نقول “لا” حين تتكاثر من حولنا “نعم” المزوّرة.

ما يُربّي فينا الشجاعة، لا حب المخاطرة، والصبر، لا مجرد التحمل.

نحن لا نفتقر إلى العلم، فالمعلومة بين أيدينا.

ولا نفتقر إلى الطموح، فالأحلام تملأ رؤوسنا.

لكننا نفتقر إلى الربط بين ما نعرف، ومن نكون.

نحتاج من يُذكّرنا أن النجاح ليس ذروة الحياة، وأن المجد لا يُقاس بالمراتب وحدها، بل بالثبات على المبدأ في زمن السيولة والانهيارات.

لا نُحمّل من سبقنا وزر النسيان، لكننا نطلب منهم إكمال الرسالة.

أن لا يقتصر إرثهم على المهارات والسعي، بل أن يتضمّن أيضًا الجذور التي ثبتت بهم، فنثبت بها.

أن لا يورثونا الأدوات فقط، بل القيم التي تجعل استخدام تلك الأدوات نبيلاً.

فالمبدأ ليس ترفًا فكريًا، ولا رفاهيةً أخلاقية.

هو العمود الفقري للكرامة الإنسانية، والسدّ الأخير أمام الانهيار الداخلي.

علّمونا كيف نثبت.

ازرعوا فينا ما ثبتكم.

فإن الإنسان بلا مبدأ، كجسدٍ بلا عظم:

واقفٌ في الشكل، منهارٌ في الجوهر.

المبدأ… هو ما نحتاجه.

لا غدًا… بل الآن.


مشاهدات 116
الكاتب كوثر قاسم الطباطبائي
أضيف 2025/05/28 - 3:29 PM
آخر تحديث 2025/06/07 - 1:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 56 الشهر 5428 الكلي 11140082
الوقت الآن
السبت 2025/6/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير