الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
فوانيس الجحيم: الأدب حين يُضيء من داخل الزنزانة


فوانيس الجحيم: الأدب حين يُضيء من داخل الزنزانة

خالد النعمان


رواية فوانيس الجحيم للكاتب شوقي كريم حسن تمثل ذروة ما يمكن أن يبلغه أدب السجون حين يتخطى التوثيق المباشر ليغدو لوحة جمالية مشبعة بالألم، ومخضبة بالتأمل في معنى الوجود وسط الجحيم. ليست هذه الرواية مجرد رصد لمعاناة السجن الجسدي، بل سبرٌ لأغوار الزنزانة النفسية التي يرزح تحتها الفرد في مجتمع القمع، والتسلط، والخذلان.تجربة “داخل الهبش” لا تبدأ من لحظة اعتقال، بل من انخراطه الوجودي في عالم مثقل بالرموز المتضادة؛ نهرٌ يفيض بالحياة لكنه أيضاً حافرُ القبور، امرأة تمنح اللذة وتخنق الرجاء، وسوقٌ يعرض اللحم والكرامة معاً. هنا، يصبح السجن ليس جدراناً من إسمنت، بل تجليات يومية لحصار الإنسان داخلياً. يطارد “داخل” ذاته في الشخوص المحيطة به، يتماهى مع المجانين، ومع المتسولين، ومع الراغبين في النجاة دون بوابة.لا يفصل شوقي كريم تجربته الشخصية عن عالم الرواية، بل يغلفها بالرمزية، بالتناص الصوفي، وبصور فنية تكاد أن تكون حلمية، حتى لتبدو بعض المقاطع كأنها تدور في عالم بين الحياة والموت، أو بين الجسد والذاكرة. ومن هنا تنبع فرادة الرواية في أدب السجون: فهي ليست شهادة توثيقية بقدر ما هي نشيد داخلي ينشد من قلب العتمة، ويفتش عن فانوس يضيء لا الواقع فقط، بل جوهر الذات السجينة منذ الميلاد.في قلب فوانيس الجحيم، تتشكل شخصية “داخل الهبش” لا بوصفه بطلًا تقليديًا، بل بوصفه مرآة مشروخة لعالم يتداعى. داخل ليس بطلاً مقاوماً كما تعوّدنا في أدب السجون الكلاسيكي، بل هو مهزوم منذ البداية، مشطور بين رغبته في النجاة وحنينه الغامض إلى الفناء. تتبدى عظمته لا في ما يفعله، بل في ما يشعر به: رجل يتقلب في الهزيمة، ويقاومها بحلم، بعشق، بتخيل نهر يمكن أن يطهّره أو امرأة يمكن أن تعيده إلى الحياة.
اللغة التي استخدمها شوقي كريم تمثل مكوناً أساسياً في صناعة العذاب، والدهشة، والحلم. لغة تنهض على الصور الشعرية، والتكرار الإيقاعي، والانزلاق من الواقعي إلى الرمزي بلا حدود واضحة. إنه يمارس الكتابة كما لو كانت نحيبًا داخلياً، أو تعويذة للخلاص من وجع لا يُحتمل. الأمكنة عنده ليست مواقعَ جغرافية، بل كيانات حية تتنفس وتموت وتغوي وتُعذّب: السوق، الشط، الزقاق، النهر، الساقية، كلّها فضاءات مكتظة بالسجن الرمزي والروحي.كما تحضر المرأة في الرواية لا بوصفها كائناً إيروتيكياً فحسب، بل بوصفها الوطن، الحلم، الخطيئة، وحتى المأوى الأخير. “صبرية” و”أمارة” ليستا شخصيتين فقط، بل هما تمظهرات للأنوثة التي تشبه الزنزانة: تحتوي وتؤلم، تفتح الأفق وتغلقه، تمنح الحياة وتلوّح بالخذلان.توظيف الكاتب للزمن متشظٍّ، لا خطي. إنه زمن يتداعى كما تتداعى ذاكرة سجين يحاول أن يلملم شتات ماضيه، دون يقين بالحاضر أو أمل بالمستقبل. تتشابك الأزمنة والذكريات لتخلق سرداً لا ينضبط إلا وفق إيقاع الذات المكلومة، كأن السرد نفسه سجينٌ في عقل داخل.إن فوانيس الجحيم تخرج بأدب السجون من كونه خطابًا سياسياً أو سيرة نضالية، لتعيده إلى مكانه الطبيعي: الفن. الفن الذي ينفذ إلى العظم، الذي لا يعرض السجن كحدث، بل كجذر وجودي يعيش فينا جميعًا، مهما تباينت جدران زنازيننا.
في قلب فوانيس الجحيم، تتشكل شخصية “داخل الهبش” لا بوصفه بطلًا تقليديًا، بل بوصفه مرآة مشروخة لعالم يتداعى. داخل ليس بطلاً مقاوماً كما تعوّدنا في أدب السجون الكلاسيكي، بل هو مهزوم منذ البداية، مشطور بين رغبته في النجاة وحنينه الغامض إلى الفناء. تتبدى عظمته لا في ما يفعله، بل في ما يشعر به: رجل يتقلب في الهزيمة، ويقاومها بحلم، بعشق، بتخيل نهر يمكن أن يطهّره أو امرأة يمكن أن تعيده إلى الحياة.
اللغة التي استخدمها شوقي كريم تمثل مكوناً أساسياً في صناعة العذاب، والدهشة، والحلم. لغة تنهض على الصور الشعرية، والتكرار الإيقاعي، والانزلاق من الواقعي إلى الرمزي بلا حدود واضحة. إنه يمارس الكتابة كما لو كانت نحيبًا داخلياً، أو تعويذة للخلاص من وجع لا يُحتمل. الأمكنة عنده ليست مواقعَ جغرافية، بل كيانات حية تتنفس وتموت وتغوي وتُعذّب: السوق، الشط، الزقاق، النهر، الساقية، كلّها فضاءات مكتظة بالسجن الرمزي والروحي.كما تحضر المرأة في الرواية لا بوصفها كائناً إيروتيكياً فحسب، بل بوصفها الوطن، الحلم، الخطيئة، وحتى المأوى الأخير. “صبرية” و”أمارة” ليستا شخصيتين فقط، بل هما تمظهرات للأنوثة التي تشبه الزنزانة: تحتوي وتؤلم، تفتح الأفق وتغلقه، تمنح الحياة وتلوّح بالخذلان.توظيف الكاتب للزمن متشظٍّ، لا خطي. إنه زمن يتداعى كما تتداعى ذاكرة سجين يحاول أن يلملم شتات ماضيه، دون يقين بالحاضر أو أمل بالمستقبل. تتشابك الأزمنة والذكريات لتخلق سرداً لا ينضبط إلا وفق إيقاع الذات المكلومة، كأن السرد نفسه سجينٌ في عقل داخل.إن فوانيس الجحيم تخرج بأدب السجون من كونه خطابًا سياسياً أو سيرة نضالية، لتعيده إلى مكانه الطبيعي: الفن. الفن الذي ينفذ إلى العظم، الذي لا يعرض السجن كحدث، بل كجذر وجودي يعيش فينا جميعًا، مهما تباينت جدران زنازيننا.


مشاهدات 52
الكاتب خالد النعمان
أضيف 2025/05/10 - 1:35 AM
آخر تحديث 2025/05/10 - 5:09 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 325 الشهر 11574 الكلي 11005578
الوقت الآن
السبت 2025/5/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير