الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
خياط الخزف الصيني (الفرفوري)- رواية قصيرة جداً

بواسطة azzaman

رواية قصيرة جداً

خياط الخزف الصيني (الفرفوري)
حميد الحريزي

 

قرية صغيرة متناثرة البيوت ترقد على ضفاف نهر صغير استقر بعائلتي الحال في مقدمة بستان على جرف النهر لأرض تعود ملكيتها لأحد الإقطاعيين من السادة. بعد أن تركنا دارنا الأولى بسبب شجار والدي مع الإقطاعي، ثائراً لكرامته وعدم احتماله لظلمه  وتحديه حتى للنظام الجمهوري الجديد بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم  آنذاك.
رافقنا في الرحلة من الدار الأولى للدار الثانية كلبنا (حمور) كان بلون (طين الحرّي) البني الداكن وكان وقتها كلباً فتيّاً نشطاً متحفزاً لا تفوته شاردة ولا واردة ليلاً ونهاراً. ولم تكن العائلة لتبخل عليه يفيض من موائد الاكل، ومايفيض من طعام الولائم . رافق (حمور) العائلة في حالة يسرها في الدار القديمة وعسرها في الدار الجديدة.  ولم تبدو عليه إمارات الكآبة أو الضيق رغم تبدل الظروف وفراقه لرفاق صباه في أول دار رغم انه كان يسرح أحياناً في أطياف طفولته ومسقط رأسه في الحديقة الغناء للعائلة على ضفاف  النهر الغنية بالثمار وأعشاش وبيوض الطيور وأنواع النخيل ... التي كانت تحظى برعاية فائقة من قبل أفراد العائلة وكان لها حق المغارسه في البستان.

كان (حمور) رغم ذلك يطفح بالسرور والبهجة وهو يرى العائلة بكامل أفرادها نساءً ورجالاً وأطفالاً ومنهم المتحدث حيث كان حمور صديقي الأثير. كانت رائحة أفراد العائلة المحببة لديه تملأه بالنشاط هذه الرائحة المفضلة دون سواها من روائح بني البشر وهي علامته الفارقة بين العدو والصديق مهما كان منها مستتراً أو ظاهراً ومهما قدّم من الإغراءات حتى ولو كانت عظمة دسمة ويظل سيده صديقاً مهما قسى وسيظل الآخر عدوه مهما بذل . إنَّه وفاء كلب وليس أي كلب، إنَّه (حمّور).

كان يوماً كلبياً مشهوداً له في القرية حين توّجته (كَمرة) الجميلة الفتية البيضاء بتاج عرش المحبة والغرام رغم أنف عشرات الكلاب الطامعة برضاها وكسب مودتها. فقد كان حمّور بذكائه وفطنته ولياقته وقوته وإقدامه وجرأته لا يدانيه أحد في امتلاك (كَمرة).
كان  شديد الحساسية فيما يخص كرامته وحمايته فهو يغضب حتى ولو رميته بعظمة دسمة مهما كانت درجة جوعه وحرمانه.

يتأسى (حمّور) ويتألم كثيراً لغباء أسياده وهو يراهم يتجرعون خبز الشعير والرز الأحمر الخشن (الحويزاوي) مع النباتات البرية (الكرط والكوكله). بالرغم من إنَّ النهر والهور بجانبهم يزخر بأسماك وفيرة من مختلف الأنواع والأحجام وكثرة وتنوع الطيور كالفخاتي والعصافير والزرازير والدرّاج والخضيري والذي كان  يظفر ببعضها على الرغم من عدم قدرته في استخدام وسائل الإنسان في الصيد.

فما الذي يجعلهم يفنون حياتهم في خدمة الأرض على الرغم من عقم رحمها وظلم ملّاكيها واستغلالهم, وكونهم يستطيعون أن يعيشوا عيشة أفضل مما هم عليه بأقل من ربع جهدهم المبذول في خدمة أرض الإقطاعيين والشيوخ وإذلالهم.

هل هو الإدمان على العبودية والرضوخ للظلم والخوف من مجاهل الحرية؟ أم هي غريزة الإنسان في استيلاد الأرض وإنبات النبات مهما بلغ من العرق والدم والألم وهو سبب خلق الإنسان لأول مرة من قبل الإله ليكدح من أجل توفير الطعام والغلال لها كما تذكر الأساطير وها هو يكدح من أجل وكلائها الإقطاعيين؟؟

ربما يكون حالهم مع الأرض كحاله معهم حيث يفني عمره في مرافقتهم وخدمتهم وعدم قدرته على فراقهم رغم فقرهم ورغم كثرة العظام والطعام حول دور الشيوخ والملالي والسراكيل في القرية والمدينة المجاورة التي لم تغريه بفراقهم!!

كثيراً ما كان حمّور يقعي جالساً أمام سيده الأكبر  موجها إليه أسئلته آنفة الذكر  وهو يدرك أن سيده يفهم ما يقول  ولكن ...

- سيده  يلتجيء إلى علبة تبغه  ليلف سيكارة  يولعها ويمتص دخانها الكثيف  ليعتم على أسئلته، ويجعلها تتطاير أمام عينيه لعجزه عن الإجابة مخاطبا حمّور :

- نحن ياحمّور لسنا أحرارا في قراراتنا كما أنت، لا نستطيع فكاكاً من قيود عبوديتنا للأرض ومالكيها ، وهي  تشكو لنا  آلامها لما تعانيه من اغتصابها عنوة من قبل الأقطاعيين، فكتب علينا إنْ سكتنا نُذل وإنْ تمردنا نُقتل!!

يرد عليه  بعواءمؤلم ، يبتعد مهرولا متوارياً بين الحقول ...

عاش حمّور حياته جذلاً فرحاً قوياً معافى وسط المروج الخضراء برفقة (كَمرة) حبيبته الحسناء ملكاً متوجاً على رؤوس كلاب المنطقة ذكوراً وإناثا ً على حدٍ سواء.

كان يلاعب القطه الجميلة (فتنة) حيث كان حمّور لايتعارك مع القطط ولا يهاجمها بل يبني معها علاقات صداقة ومودة  وتعاون حتى أنه يتقاسم معها ما يحصل عليه من صيد سمك على حافة النهر، أو ما يصطاد من طيور...

تناهى إلى سمعه وبصره مشهد العائلة وهي تحمل أثاثها المتهالك وفرشها الرث على ظهور الحمير مهاجرة إلى مدينة  (النجف) حيث امتلك  سيده  داراً في أطراف المدينة حينما كانت العائلة تتوفر على فائض من المال من واردات بستانهم وأرضهم ودارهم القديمة.

جاء هذا القرار بعد أن أنهك الجوع العائلة المشاكسة صاحبة الكبرياء بسبب جشع الأقطاعيين بالإضافة إلى شحة الماء لخراب (المكينة) وعدم أصلاحها من قبل الإقطاعي. عرف لفته بـ(أبو العرايض) حيث ظل لأكثر من ثلاث سنوات يدور بين المحاكم ودوائر الدولة وقد وصل حتّى إلى بغداد!! وهو يأمل بمقابلة الزعيم في ذلك الوقت وصرف كل ذخيرته من المال والحلال في هذه المراجعات والمرافعات ليستردَّ حقه ويثأر لكرامته من الإقطاعي ولكن دون جدوى وقد ظلَّت (دار السيد مامونة)! على الرغم من ضجيج الشعارات آنذاك في نصرة العامل والفلاح ورغم إن صورة الزعيم تزيّن أكواخنا ونظرتنا إليه كانت كمخلص للفلاحين وكل الفقراء ولكن ...

نقول أنَّ هذا الأمر وضع حمّور في إرباك وحيرة شديدة وصعوبة إتخاذ قرار. هل يرافق العائلة إلى حيث ضياعها في شوارع المدينة وأزقتها ويترك (كَمرة) لأنه يعلم تماماً إنَّها لا يمكن أنْ تقبل حتى مناقشة فكرة الرحيل عن القرية والتخلّي عن قريتها، وقد ذاقت في طفولتها مرارة وعذاب الذل والمهانة والإبتذال في المدينة ضمن قصة حزينة عاشتها في المدينة، وكيف غامرت بحياتها للعودة إلى القرية وامتلاك حريتها وقد روتها لـ(حمّور) في بداية تعارفهما.
هل يستطيع أنْ يتأقلم مع كلاب المدينة المخنثة الجبانة منزوعة الغيرة التي لا تعرف العدو من الصديق؟ فكل من يطعمها بعظمة فهو سيدها وإن يكن أسفل السافلين. كلاب المدنية منزوعة الكبرياء ممسوخة الذات مفرغة من المبادئ والقيم!!

هل يستطيع وسط هذه المسوخ الذليلة أن يقود ثورة كلبية من أجل الحُريّة؟ وهي تؤمن بمقولة أو حكمة شائعة في أوساطها (كل الياخذ أمي يصير عمي)!!

عصفت هذه الخواطر والأفكار برأسه كدوّي الزنابير ومادت الأرض تحت قدميه غير منتبهاً لـ(كَمرة) وهي (تلحس) جبينه الوضّاء الذي أنطفأ نوره على حين غرّة غير مدركة وغير مستوعبة مدى معاناته وصعوبة حسمه لأمره...

إنَّها لحظات تفصلك بين الحرية والكرامة وبين المذلّة والعبودية والهوان فما عساك فاعلاً يا (حمّور)؟

أدركت  سيدة البيت ما يعانيه  حمّور من حيرة  وما يوجهه من أسئلة الى  سيده  حول قراره بالرحيل  قائلة :

ما بك ياحمّور  مرتبكا  ومستغربا مما أقدم عليه سيدك بالرحيل الى المدينة؟ ألم  تحرضه أنت على التمرد والخلاص من ظلم هذا الأقطاعي الظالم؟ فما بالك الآن تبدو معارضاً لقراره بالرحيل؟

وهل ترين سيدتي أنكم برحيلكم الى المدينة، ستبلغون جنة الاحلام وتدركون حيز الحرية والعيش بكرامة،  في المدينة ستكون حالكم أكثر بؤسا وفقرا ومذلة، هكذا أخبرتني  كَمرة، في القرية تتراحمون فيما بينكم، يتفقد بعضكم بعضا  مهما كانت الظروف قاسية، في الريف توجد بعض الأغذية والمواد مجانية مثل  الطيور والأسماك وبعض النباتات المغذية مثل  الكرط والكوكله، والبردي والقصب  وجريد النخيل ووو، في المدينة كل شيء بفلوس  حتى الماء، والناس  لايعرف  بعضهم بعض ولا يعطف بعضهم على بعض، الكل مشغول بحاله  وهمّه في الحصول على لقمة عياله.

الله  وأكبر يا حمّور  أنت  سوّدت الدنيا بوجوهنا، فأين المفر إذن؟ ألا يرى الله حالنا.  أليس  هو خالقنا. وهو مقدر الأرزاق.

قالت ذلك، وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وهي تستعيد ذكرياتها في القرية، وكيف  تستطيع العيش مسجونة بين جدران أربعة في المدينة، وتفارق هذا الفضاء القروي الفسيح. لمن ستترك قبّة (المطّال) التي جهزتها كوقود للشتاء القادم، ولن تسمع بعد ذلك رغاء البقر، ولا ثغاء الأغنام، ولا نهيق الحمير، وستفتقد صوت (الكارور) و (الطسلة)، وأسراب أبو الخضير، وأسراب الزرازير التي تغطي عين الشمس في مواسم الحصاد، و(كصاص) النخيل ... تهيمن عليها نوبة  بكاء ونحيب  ولوعة، لم يستطع حمّور تحملها...ووو

رفع يدهُ اليمنى متكئاً على يده اليسرى وضرب بها وجه الأرض بقوة كمن يبصم بإصرار على قرار مصيري خطير!!

قفز نازلاً من (المترب) راكضا بصحبة (كَمرة) وراء ضعن العائلة وسرعان ما أدركه، فأخذ يسايرني في المسير مرة خلفي ومرة قافزاً أمامي وبجانبي كمن يحثني على البقاء وعدم الرحيل وكمن يقدم اعتذاراً لعدم قدرته على مرافقة العائلة؟

مع هدير محرك السيارة الناقلة للعائلة وأثاثها صوب مدينة النجف اختلط صوت عواء حمّور باكيا شاكيا متألما مختلطا مع زعيق طيور الدجاج على ظهر السيارة في وداعها الأخير لحمّور وكأنها تسأله بمن سيتكفل حمايتها من الثعالب بعده، جاهلة حقيقة عدم وجود ثعالب في المدينة حيث هجرتها بعد أن تثعلب فيهاالإنسان!!

إنَّها شهقة الوداع الأخيرة (لحمّور) لعائلة تنتقل إلى شكل جديد من أشكال المعاناة والألم والضياع .. هذا ماروته له (كَمرة) عن حال الفقراء من الفلاحين المهاجرين للمدينة.
قالها حمور بصراحة رغم غصة الألم: ألم الفراق والجوع مع امتلاكه لحريته أهون عليه من المذلة والضياع في أزقتها.

آخر من لوّح بكفّه للوداع بعدما مسحت عيناها من دموع مدرارة لم تستطع  كبتها، (فتنة) رفيقة الصبا وملاعب الحقول ونحن نرعى حيواناتنا كل يوم،  كنا نستظل  بظل  شجيرات الصفصاف  على ضفة النهير الصغير، نرتوي من (ماء العروس) ونغط في قبل عطشى لا ترتوي، أحلام  وأحلام نحوكها من خيوط الشمس عند الغروب فتصطبغ  بحمرة خدود فتنة.

ماذا؟ هل سترحل وتترك حبيبة القلب تكتوي بنار الفراق لا يواسيها سوى زعيق الحجل وثغاء النعاج؟ يبدو أن لاخيار ولابد من الرحيل.

لقد كان حمّور أكثر شجاعة  وأكثر وفاء مني، فقد قرّر أن يبقى الى جوار حبيبته كمرة ولن يغادرالقرية.
مرّ أكثر من عام على رحيل العائلة من القرية تعرضت فيه لأقسى حالات الضياع والبؤس والمذلة وشظف العيش بسبب البطالة الشديدة وسوء وخبث وثعلبة أغلب سكان المدينة بما لا يألفه ولا يعتاد عليه ابن الريف بإضافة إلى ما عاشه العراق عموماً وخصوصاً الوسط والجنوب بعد انقلاب شباط/ 1963 من حالة الخوف والمطاردة والقتل والإعتقال على الشبهات من قبل الحرس القومي وملاحقة الشيوعيين وأصدقائهم ومن والاهم بمقتضى البيان رقم 13 سيء الصيت ولا زلت أتذكر جيداً كيف أنَّ ماء النهر أخذ يحمل على سطحه كتباً وكراريس حمراء بعد 8 شباط 1963. يبادر حمّور أحياناً الى شق أمواج النهر ملتقطاً أحد الكتب  ليضعه أمامي، وكأنه يدعوني للقراءة، ومعرفة سبب إلقاء هذا الكتاب في النهر غير مدركا لمعنى صورة الزعيم عبدالكريم قاسم التي كانت تزيَّن غلاف الكتاب، أو أنه كان ينوي انقاذه من الغرق وسط هذا التيار الدموي المتسارع.

ماذا تفعل ياحمور ألا  تخشى أن يتهمك الحرس الفاشي بأنك قاسمياً وقد يقتلونك أو يزجونك في السجن؟

يرد عليَّ بهوهوة تحدي، محدقاً في قرص القمر مشاركاً أمي التي تتوهم رؤية  صورة الزعيم في القمر!.

تحيى هذه المدينة أزدواجية كبيرة بين ظاهر معلوم ومستتر مضموم، بيوت مرتفعة البناء كعالم ظاهر والسراديب والآبار المظلمة كعالَم ثانٍ متوارٍ تحت الأرض وخوف العناصر الأجنبية التي توطنت المدنية من فرس وأفغان وأتراك وغيرهم اللذين كانوا يشعرون بنقص كبير أمام عروبة وأصالة أبناء الريف العراقي المجاورين للمدينة.

كان (حمّور) محط أهتمام أهل القرية وعطفهم لما يتميّز به من القوة والجرأة في مطاردة الثعالب وحتى الخنازير وإبعادها عن القرية، ومدى وفائه لأسياده طيلة فترة غيابنا حيث لم يبارح الأطلال وهو يقعي عاوياً بأنين حزين يقطّع نياط القلوب نادبا شاكيا لواعج شوقه معاتبا أهل الدار بسبب غيابهم، ولم يعد يسامر (كمرة) على مروج الحقل في الليالي المقمرة .

كان عزاؤه الوحيد (خيّاط الفرفوري)، هذا الرجل الأسمر، أشيب المفرقين، متماسك الجسد  وكأنه هيكل من فولاذ، مربوع،  له عينان سوداوان يشعّان بريقاً، يرتدي بنطلوناً  مهلهلاً وقميصا أحمر اللون  تتناثر عليه زهور صفراء، زيّ غريب في قرية  كل سكانها يرتدون الدشاديش الفضفاضة والكوفية والعقال، يحمل على كتفه دولاب كبير، متصل بدواسة تدوره بحركة من حامله، وبيده يمسك بما يشبه القوس، وهناك (عليجة/كشكول) تحتوي مستلزمات العمل لخياطة الفرفوري، من صحون الطعام، وصحون الشاي، والقواري، والكاسات المصنوعة من الخزف الملون  المسمى (فرفوري) ليعيد لصق  شظاياها ببعضها عبر  ربطها بسلك نحاسي وترصينه بمادة الصلح  أظنه مادة الأسمنت الأبيض كان يقوم بعمله بحب  وذوق جمالي مميز  وكأنه يجبر خاطر الإناء المكسور متعاطفاً معه بكل جوارحه، لتعود هذه  الأواني صالحة للأستعمال، وإن كان أثر الكسر لا يزول ، مقابل أجرة رمزية ربما تكون مواد عينية مما يتوفر لدى القرويين من حبوب وبيض دجاج  وفواكه ... الخ. وقد يلجأ الى ذلك بعض الأثرياء إعتزازاً واحتفاظا بتحفة خزفية نادرة للأحتفاظ بها  رغم عيبها لأنها  لاتعوض. كان فقراء الريف لا يستعملون هذه الأواني إلا حينما يحل عليهم ضيفاً عزيزاً، عادة ما يستخدمون أواني من الفافون  والنحاس ...

كان حمّور يراقب خيّاط الفرفوري ويتابعه في حركاته  وما يقوم به من أفعال، وهو يخيّط الأواني، و يقوم بقراءة الكف لبعض الرجال والنساء، لاحظ الرجل أهتمام الكلب به ومتابعته له، يبدو  أنه فهم  من هوهواته أنه يسأل من هو؟  ومن أين أتى؟ وماذا يفعل  في هذه القرية  وهو غريب عنها؟،  هوْهو له الرجل  بلغته التي يفهمها  قائلا:

أنا أفهم  استفساراتك  وفضولك نحوي ، سأكون ضيفك الليلة في  كوخك الذي تركه  أهل الدار لك، لأستريح  وأشرح لك من أنا!. أقدر فيك فطنتك، أنا معجب بك كثيراً، سانتظرك.  يبدو أننا وحيدان ها هنا ... أنا مسرور جداً أنك تفهمني  ما اروعك.!

بعد إنتهاء عمله حمل اغراضه ورافق حمّور  نحو الكوخ، وضع الرجل أغراضه، أقعى حمّور بالقرب منه هاشاً باشاً مرحبا بطريقته الخاصة، رد عليه الخياط  ممتنا  لترحيبه  وحفاوته.

أخرج من عليجته ثلاث بيضات دجاج، وعلبة  من الدهن الحر، أحضر بعضاً من  عيدان الحطب بالقرب من الكوخ وقام بقلي  البيض مع البصل في صحن من الفافون  يحمله معه  لهذا الغرض، افترش قطعة قماش على أرض الكوخ أحضر  طبق البيض وأخرج من   خرجه  أرغفة الخبز التي حصل عليها من  أهل القرية،  أومأ إلى حمّور ليشاركه الطعام.

شاركه حمّور طعامه بكل أدب وسرور وهما يتبادلان  النظرات وبعض الهمهمات.

بعد أن أكملا الغداء اغتسل الخيّاط بماء النهر المجاور، وعاد الى الكوخ، شكره حمّور لكرمه  ومشاركته طعامه  وهو فعل ما لم يفعله معه بشر سابقاً، موضحاً له انَّه بقي وحيداً هنا سوى رفيقته كَمرة التي تعيش في أحد  بيوت القرية، رفض الهجرة الى المدينة مع أسياده  وهو حزين جداً لفراقهم، ولا يتحمل العيش تحت أمرة أي أحد غيرهم، فظل مرابطاً في الكوخ على الرغم من معانته من الجوع والوحدة ما عدا بعض أوقات خاطفة تزوره فيها حبيبته  كَمرة .

أجابه  الخيّاط  معلنا له أعجابه به  مقدرا فيه إبائه وكبريائه ووفائه لأسياده مما يسعده أن يكون صديقه الأقرب الى نفسه، وبدأ يسرد له حكايته:

أنا  يا أخي الوفي  من بلاد الهند حباني الله بالكثير من القدرات والمهارات والكرامات، فأنا اتكلم بأكثر من لغة، كما أني أستطيع أن أفهم وأتفاهم مع الكثير من الحيوانات والطيور من سكنة البر والبحر والنهر، وكما ترى أنا قاريء للكف بكفاءة عالية. تعلمت كل هذا بمرافقتي أحد الدراويش، حيث كنت أقوم بخدمته لأكثر من سنتين، فهو رجل هرم ضعيف البصر محدودب الظهر، وقد جبت معه أغلب بلدان العالم حاملا خرجه وملبيا طلباته، فتعلمت الكثير  وقد كشف لي  سر الكثير ، وعلمني  لغات الحيوان  ، وعلمني كيفية كشف أسرار الإنسان، وقبيل وفاته أودعني كتابا عظيما يحمل الكثير من الأسرار (جامع المعارف ومغاليق الوظائف). كتاب أحرص عليه  أكثر مما أحرص على حياتي ، نافع جدا  إن وقع بيد حكيم، وضار جدا إن وقع بيد جاهل شرير، يمكنك من السير على الماء وقراءة طوالع السماء، ويكشف ما هو مضمر في السر والخفاء لدى  الناس.

يجلس حمّور الوصيد موجهاً أذنيه صوب صوت الخيّاط يستمع باهتمام مشوب بعلامات التعجب، وايماءة معبرة  من بوزه، ويضرب الأرض بذيله علامة  إعجاب!

أنا اسمي (كابور) ، أعمل سائق جرار في ولاية كابور، أقوم بحراثة أراضي المزارعين  في مواسم الزراعة، وقعت في غرام فتاة كشميرية ابنة أحد ملاكي الأرض في المنطقة،  اسمها (قمر الزمان)، وهي تبادلني الحب والغرام  نفسه، تقدمت مرات عديدة لخطوبتها من والدها ولكنه كان يرفض وبشدة حتى انَّه منعني من العمل في المنطقة، بالصدفة  تواجد أحد اقطاعي العراق  في زيارة الى كشمير  وقد نزل ضيفا على والد قمر الزمان، وما  إن رآها حتى  أغرم بها إيما غرام، فخطبها من والدها مجزلا له المال من الدولارات  والذهب فوافق  والدها، وتم زفافها له  خلال فترة أسبوع، اصطحبها وعاد بها الى العراق، فكدت أجن  لفراقها، وما عدت أستطيع تحمل العيش بعيدا عنها ومن دون رؤيتها، وبعد إجراء تحرياتي وتجنيد الطيور للبحث عن مكان حبيبتي في العراق، علمت أنها تسكن قصرا  لأحد الاقطاعيين الكبار في منطقتكم ،  تبادلت معها الرسائل عن طريق الطيور .. فأعملت الفكر في  إيجاد طريقة لرؤيتها والتواصل معها والعيش بالقرب منها  وإلا سأصاب بالجنون، فاهتديت إلى أن احترف مهنة (خيّاط فرفوري) ، فيمكنني من التجوال في القرى العراقية، وإمكانية دخول البيوت لإصلاح الأواني وكذلك لقراءة الكف وكان لي ذلك كما تراني، تمكنت من رؤية حبيبتي وجلست بالقرب منها ولمست كفها لقراءة  طالعها، وقد أصبحت أحد أصدقاء العائلة وقد استأنسني زوجها وقرّبني اليه  لأتحدث له ولمجالسيه في ديوانه عن حكمة الهند وعجائبها وغرائبها، وحظيت بتقدير كبير لدى الناس من الرجال والنساء لدقة قراءة الكف والطالع  وامكانياتي في التفاهم مع الحيوانات ومنها الكلاب، فما  من كلب يراني حتى يهش وينش بي ويتملقني وكأنني من أهل الدار مهما كانت وحشيته، مما أثار عجب واستغراب  الجميع واعتبروني من أصحاب الكرامات .. ولم يستطع أحد أن يكشف سرّي أو يتعرف أمري، ولم أجد أهلاً لحفظ هذا السر إلا أنت ياحمور، وأنا منذ أسابيع  اتابع سلوكياتك وتصرفاتك  فكنت محل ثقتي ومحبتي آمل أن تقبل صداقتي  وتتقبل مرافقتي  وتكون أمين أسراري.

هوْهو حمّور بعلامات الحب والرضا، نهض من رقدته وأخذ يتشمم  وجه  (كومار) ويلحس بلسانه جبهته  وكفوف يديه علامة الحب  وعهد الوفاء والرفقة والصداقة ... وهم كذلك حطّت بالقرب منهم حمامة  بيضاء جميلة، القت أمام كومار لفافة ورق ملونة  عبارة عن رسالة تواصل من قمر الزمان إلى  حبيبها (كابور)  تبثه  شوقها   وحبها  وما هي عليه  من حال، قبل كومار الرسالة وأستل  قلمه ليرد  على رسالتها معبراً عن شوقه ونفاد صبره  على فراقها  ولهفته الى ضمها وعناقها، كتبها بلغة لا يفهما إلا  هما فقط ، أودع جناح الحمامة الرسالة، مسّد على رأسها وأمرها بالطيران، صفّقت بجناحيها هواء الكوخ، لفّت حول الكوخ لفّة وداع ثم غادرت الى حيث رائحة الحبيبة  قمر الزمان.

بعد ذلك  إستسلم  كابور الى اغفاءة حالمة وبالقرب منه حمّور  يشم أنفاسه، استيقظ بعدها، اغتسل في النهر، رتّب شعره  المنسدل  على كتفيه، أعاد ارتداء ملابسه،  عند المساء اصطحب معه حمّور  في جولة عبر الحقول والبساتين وهو يداعب الطيور  ويشاركها   تغريداتها، يحط بعضها على رأسه وعلى كتفيه  بكل هدوء واطمئنان.

يقف أحيانا وسط الحقول ويطلق صوته مقلدا صوت ديك الحجل، وسرعان  ما تحيط به  أعدادا من أناث الحجل  لتقف بين يديه  وطوع أمره.

لايذهب بك  الظن بعيدا ياحمّور فأنا  لا أصطاد الطيور  ولا آكل لحومها أبداً, فأنا  لا آكل لحوم أصدقائي، وكما ترى أكتفي  بالخضر  والخبز واللبن والحليب والتمر والبيض والدبس والبصل، محرماً على نفسي أكل اللحوم البيضاء والحمراء بمختلف أنواعها.

أتعلم ياحمّور أني امتلك القدرة على رؤية كنوز الأرض في كل مكان أتواجد فيه!!.

ما دمت تمتلك هذه القدرة لماذا تعيش عيشة الفقر والتشرد كما أراك؟، انه لأمر غريب لا أستطيع فهمه!!

لا ألومك ياحمّور على استغرابك، ولكني  أعيد السؤال عليك:  كم أنت سعيد  وحر كونك لا تملك شيئا ولا تفكر  بتدبير غذاء يومك، ولا مكان يؤويك أينما كان؟

نعم ياكومار لقد صدقت القول هذا أنا كل ما أحلم به  وما تعودت عليه.

ياصديقي حمّور، إن مرافقتي للدرويش الهندي علمتني دروس كثيرة في الحكمة  وطريقة العيش والتخلص من هموم الحياة والتخفف من أثقالها، ومن أهم هذه النصائح أن لا أفكر بامتلاك المال ولا العقارات ولا الحيوانات، ولا أفكر إلا بما يسد حاجتي اليومية، وبذلك أعيش مرتاح البال، ولم  أختلف مع أحد ولم أعادي  أي أحد، ولم يعاديني أحد. حيث  كان يقول لي الدرويش: يا كابور لو بحثت  الأسباب الحقيقة للحروب الدموية بين البشر لعلمت هو السعي لإمتلاك المال  وامتلاك رقاب الناس والتحكم بمصائرهم واحتكار ثروات الأرض، من دون أن يقنع أحدهم بمقدار محدد للمال والعبيد والأراضي والحيوانات، فالإنسان الكائن الوحيد الذي  لايقتنع بتحديد حجم ثرواته، ولكنه يطالب دوما بالمزيد، ويسعى للإستحواذ على ما يمتلكه الآخرين  ليكون هو المالك الأكبر أو المالك الأوحد، هذا الحب للتملك والحيازة أورث العداواة حتى بين أفراد العائلة الواحدة، فلذلك وسمعا لما نصحني به معلمي وما اقتنعت به، أنه بالفعل طريق السلامة وراحة البال وسعادة الأنسان الفرد والبشرية جميعا .. فما أروع  أن يعمل الكل من أجل الكل، وأن يعمل الإنسان بكامل طاقته ولا يأخذ إلا بمقدار حاجته وصدق من قال: (أحبب لأخيك ماتحب لنفسك وأكره له ما تكره لها) ، وصدق من قال: (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته)، فثروات العالم تسد حاجة كل البشر ليعيشوا  بسلام وأمان ورفاه، لولا سعي القوي  لإستعباد الضعيف، وسعي البعض لاحتكار المال والسلطة  ويترك الآخرين يعانون القهر والجوع  والحرمان.

فما أسعدني  الآن وأنا لا أمتلك سوى آلتي  وخرجي  ورغيف خبزي، لا أخاف أحداً ولا يخشاني أحد.

وها أنت ترى أنتم في العراق مالك الثروات الهائلة من النفط والكبريت وغيرها من المعادن، بلاد النهرين، بلاد السهول والهضاب والجبال، الأقلية تستحوذ على المال  والسلطة والأغلبية تعيش الفقر والإملاق، وعدد السجون أكثر من عدد المستشفيات، وأنت ترى  جوع  وفقر وبؤس أسيادك من الفلاحين وهم الذين ينتجون الخيرات.

قفز  حمور قفزات المرح والفرح  والحب  ودار حول   كابور  دورة الرضا  بما سمعه منه ...                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           وجدناه عند عودتنا للدار من المدينة خائبين بعد أنْ ضاق بنا المقام وشح علينا الخبز واللباس والطعام، وعدم قدرتنا على التأقلم مع تقاليد وعادات ولؤم أغلب سكنة المدينة.

استقبلنا (حمّور) من بعد مسترشدا برائحة العائلة بسبب ضعف بصره.

وما زاده كدرا ضعفه وقلة حيلته أمام حبيبته (كَمرة) فلم يعد قادرا أنْ يصد عنها تطفل المتطفلين ولا تجاوز المتجاوزين من الكلاب الطامعة بها سواء من كلاب القرية أو من خارجها فقد تطاول الغرباء على حرمة إناث كلاب القرية بعد كبروعجز ومرض (حمّور) بتواطؤ وتخاذل وجبن وشذوذ بعض ذكورها.

بسبب ما شهدنا من مودة وحب بين حمور وخيّاط الفرفوري، وما لمسناه من  الرجل من  حكمة وطيبة سرعان ما ائتلفنا معه، وأفردنا له كوخا صغيرا بجانب الدار يؤيه وحمّور  معاً.
في موسم الإخصاب السنوي المعروف أخذت قطعان الكلاب الحمر والبيض والسود والملونة تتحلق وتتعلق وتستعرض قوتها وفتوتها حول (كمرة) التي لم تظهر عليها علامات الكبر لجمالها الأخّاذ المتجدّد دوماً, وجاذبيتها الإنوثية الآسرة التي لاتقاوم وإن بدا عليها بعض الفتور بسبب ما حلّ بحبيبها وأثيرها (حمور).

ورغم أن أغلب الكلاب تهابه وتخشى صولاته وتقر له بمجد وبطولة سابقة, وأن بعضها قد جاء من صلبه، محاولة قدر الإمكان كبح جماح غرائزها وعدم جرح شعوره بالإستيلاء على معشوقته الفاتنة.وقد لحظنا أنا وكابور معاناة حمور وهو يرى  طمع الكلاب بحبيبته وهو لايستطيع ان يصد عنها  ولايؤمن لها رغبتها كما كان ...كلما اقترب أجل العرس الكلبي الموعود ازدادت (كمرة) أنوثة وإغراءا وازدادت رائحتها إثارة ونفاذا فتزداد قوة غريزة الكلاب وحشية وضراوة وتوتر فتنحي كل تقاليد الإحترام والخوف والإلتزام جانبا ليحل محلها الضراوة والإقدام للفوز بقلب الفاتنة البيضاء ورائحتها الإنوثية المخدرة.


أخذت (كَمره) تضعف أمام هياج الغريزة وعبارات واستعراضات الإغراء والإطراء والافتتان لكلب فتي قوي جميل شجاع من سلالة حمّور استطاع عبر عراك ضروس أن يبعد عنها كل المنافسين الآخرين، ليقرّون صاغرين له بتاج العرس العظيم على (كمرة) فاتنة الجميع وهي ترى فيه شباب حمّور بالأضافة إلى ضغط غريزة استمرار النوع وغريزة الأمومة التي لا يمكن أن تقاوم بالنسبة لإناث كل الحيوانات ومنها الكلاب، أذعنت (كمرة) وأومأت بعلامات الرضا للعريس الشاب فدخل العروسان في غيبوبة الغريزة الطافحة ليذوبا في نار الغرام المتأججة، فالتف الذيلان على بعضهما مفتولين كفتل الحبال بقوة خارقة وسط عشرات الكلاب صغارا وكبارا بيضا وسودا وهي تهز ذيولها وتدلق ألسنتها وتغلق عيونها على المشهد المسكر للعروسين ومشاركتهما لذتهما التي غيبتهما عن عالم الحضور إلى عالم السعادة والحبور إلا حمّور فقد اسودّت الدنيا بعينيه وانكسر ظهره وخارت بقايا قواه فانطلقت من فمه صيحة أطارت الطيور وأرعبت الحضور، صيحة أفقدت جمع الكلاب المعرسة نشوتها وكبحت جماح غرائزها ، وقد اصاب الذهول اسياد حمور وكيف دس رأسه تحت فدان الجرار الزراعي حيث كان يحرث الارض بالقرب من الدار، هرعنا اليه أنا وكابور فشاهدنان كيف فصل سكين الفدان رأسه عن جسده .

حملنا جسده وبقايا رأسه وقمنا بدفنه تحت ظلال شجرة صفصاف عملاقة  على ضفة النهر ، وسط الم وحزن الجميع ...وقد تساقطت دموع  كابور على تراب القبر وكأنها قبلة وداع...قرر كابور ترك القرية والعودة إلى بلده الهند معلناً يأسه من الضفر بحبيبته (قمر الزمان). وقد أبلغها قراره هذا عبر رسالة محمولة على جنح حمامة بيضاء. بعد أن عجزت عن ثنيه عن قراره بالرحيل ودعتهوودعني بدموع الفراق والأسى،  في الهند وضع  خرج الدروشة على ظهره   متجولا بين المدن والقرى، يمضي لياليه في أحد الكهوف معتزلا الناس ، لايرافقه سوى  شبابته التي كان يعزف  بواسطتها الحان الحب والغرام والحنين والحرمان ، فتنصت له الطيور والزهور والأشجار...

 

معاني بعض المفردات:

الفرفوري = الخزف الصيني

كوكله  والكرط =  نباتات  برية صالحة للأكل .

الطسلة والكارور = أنواع من الطيور الملونة.


مشاهدات 136
الكاتب حميد الحريزي
أضيف 2025/05/03 - 1:37 AM
آخر تحديث 2025/05/03 - 4:16 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 773 الشهر 3105 الكلي 10997109
الوقت الآن
السبت 2025/5/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير