الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
دوندي

بواسطة azzaman

دوندي

محمد زكي ابراهيم

 

لوقت‭ ‬طويل‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬لا‭ ‬تمتلك‭ ‬القوة‭ ‬والشجاعة،‭ ‬اللتين‭ ‬تتمكن‭ ‬بهما‭ ‬من‭ ‬الإطباق‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬والإمساك‭ ‬بتلابيب‭ ‬الحكم‭ ‬وكنت‭ ‬أعتقد‭ ‬أنها‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬وضعها‭ ‬القدر‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬الرئاسة،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬الأقوياء‭ ‬الذين‭ ‬يديرون‭ ‬لها‭ ‬الأمور،‭ ‬ويزيحون‭ ‬عنها‭ ‬العقبات‭.‬

لكنني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أطلعت‭ ‬على‭ ‬سير‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬النسوة‭ ‬اللواتي‭ ‬حكمن‭ ‬في‭ ‬بقاع‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬أدركت‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬جانبت‭ ‬الصواب،‭ ‬وأن‭ ‬إعطاء‭ ‬الفرصة‭ ‬لهن،‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬البلدان،‭ ‬سيأتي‭ ‬بنتائج‭ ‬ناجحة‭ ‬جداً‭.‬

وقد‭ ‬حملني‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬القول،‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬المؤرخون‭ ‬عن‭ ‬سيدة‭ ‬حكمت‭ ‬العراق‭ ‬ومناطق‭ ‬قريبة‭ ‬منه‭ ‬مدة‭ ‬تزيد‭ ‬عن‭ ‬9‭ ‬سنوات،‭ ‬وهي‭ ‬أميرة‭ ‬من‭ ‬أميرات‭ ‬الترك،‭ ‬الذين‭ ‬استقروا‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬بعد‭ ‬زوال‭ ‬حكم‭ ‬أسرة‭ ‬هولاكو‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وإيران،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬سلطانة‭ ‬العراق‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬لشهور‭ ‬عديدة،‭ ‬سلطانة‭ ‬مصر‭ ‬أيضاً‭.‬

هذه‭ ‬المرأة‭ ‬المفرطة‭ ‬الجمال،‭ ‬اسمها‭ (‬دوندي‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬عذوبة،‭ ‬ولا‭ ‬يستعصي‭ ‬على‭ ‬لسان،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬اختلطت‭ ‬فيه‭ ‬اللغات‭ ‬واللهجات،‭ ‬وانتشرت‭ ‬بين‭ ‬أبنائه‭ ‬العجمة،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬العربية‭ ‬فيه‭ ‬لغة‭ ‬النخبة‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الحكم‭.‬

‭ ‬و‭(‬دوندي‭) ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬ابنة‭ ‬السلطان‭ ‬حسين‭ ‬بن‭ ‬أويس‭ ‬الجلائري،‭ ‬الذي‭ ‬تعود‭ ‬أصوله‭ ‬إلى‭ ‬شرق‭ ‬منغوليا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الأقوال،‭ ‬وكانت‭ ‬ضمن‭ ‬التحالف‭ ‬الذي‭ ‬قاده‭ ‬جنكيز‭ ‬خان‭ ‬لاجتياح‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى،‭ ‬فلما‭ ‬تضعضع‭ ‬حكم‭ ‬ورثة‭ ‬هولاكو،‭ ‬أطبقت‭ ‬هذه‭ ‬القبيلة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬نيفاً‭ ‬وثمانين‭ ‬عاماً‭.‬

كان‭ ‬عمها‭ ‬السلطان‭ ‬أحمد‭ ‬أحد‭ ‬أقوى‭ ‬ملوك‭ ‬الجلائرية،‭ ‬وكان‭ ‬فاتكاً‭ ‬شجاعاً،‭ ‬فلما‭ ‬قدمت‭ ‬جيوش‭ ‬الفاتح‭ ‬الأعرج،‭ ‬تيمور،‭ ‬لاحتلال‭ ‬بغداد،‭ ‬اضطر‭ ‬هو‭ ‬وأسرته‭ ‬للهجرة‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحكمها‭ ‬المماليك،‭ ‬فدخل‭ ‬القاهرة‭ ‬عام‭ ‬796‭ ‬هـ،‭ ‬فاستقبله‭ ‬السلطان‭ ‬برقوق،وأكرمه‭.‬

وحينما‭ ‬شاهد‭ ‬الأخير‭ (‬دوندي‭) ‬ابنة‭ ‬أخ‭ ‬السلطان،‭ ‬خلب‭ ‬لبه‭ ‬جمالها،‭ ‬فطلبها‭ ‬للزواج‭ ‬ووافق‭ ‬العم،‭ ‬وبقيت‭ ‬معه‭ ‬أشهراً،‭ ‬ولما‭ ‬سمع‭ ‬السلطان‭ ‬أحمد‭ ‬بمغادرة‭ ‬تيمور‭ ‬بغداد،‭ ‬عزم‭ ‬على‭ ‬العودة‭ ‬إليها،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬طلاق‭ ‬الأميرة‭ ‬من‭ ‬السلطان،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بالفعل‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬قام‭ ‬السلطان‭ ‬أحمد‭ ‬بتزويجها‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬أخ‭ ‬له‭ ‬اسمه‭ (‬شاه‭ ‬ولد‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬يدير‭ ‬أمور‭ ‬بغداد‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬عمه،‭ ‬فلما‭ ‬قتل‭ ‬السلطان‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬خصومه‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬دولة‭ (‬الخروف‭ ‬الأسود‭)‬،‭ ‬أصبح‭ ‬هو‭ ‬ملك‭ ‬العراق‭ ‬لمدة‭ ‬وجيزة،‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬بعدها‭ ‬أن‭ ‬فارق‭ ‬الحياة‭.‬

وتفيد‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬أنه‭ ‬قتل‭ ‬بتدبير‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ (‬دوندي‭ ‬سلطان‭) ‬نفسها،‭ ‬وتولى‭ ‬السلطنة‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬ولده‭ ‬محمود،‭ ‬وكان‭ ‬مايزال‭ ‬صبياً‭. ‬فكانت‭ (‬دوندي‭) ‬هي‭ ‬الحاكم‭ ‬الحقيقي‭ ‬وصاحبة‭ ‬الكلمة‭ ‬النافذة،‭ ‬ولم‭ ‬تستقر‭ ‬الأمور‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬إذ‭ ‬حوصرت‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬ملوك‭ (‬الخروف‭ ‬الأسود‭) ‬،‭ ‬فنزحت‭ (‬دوندي‭ ‬سلطان‭) ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬زوجها‭ ‬السلطان‭ ‬محمود،‭ ‬إلى‭ ‬تستر‭ ‬عام‭ ‬814‭ ‬هـ،‭ ‬واستمرا‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬مناصفة‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام،‭ ‬ثم‭ ‬دبرت‭ ‬له‭ ‬مقتلاً‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬819‭ ‬هـ،‭ ‬لتستقل‭ ‬هي‭ ‬بالحكم‭ ‬لوحدها‭.‬

ولم‭ ‬تنته‭ ‬طموحات‭ (‬دوندي‭) ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬استخلصت‭ ‬البصرة‭ ‬لنفسها‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬حاكمها‭ ‬الشيخ‭ (‬مانع‭)‬،‭ ‬وأعقبت‭ ‬ذلك‭ ‬باستيلائها‭ ‬على‭ ‬واسط،‭ ‬فاتسعت‭ ‬مملكتها‭ (‬وصار‭ ‬يخطب‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬المنابر،‭ ‬وتضرب‭ ‬باسمها‭  ‬النقود‭)‬،‭ ‬ومعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬إرساء‭ ‬أسس‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬المملكة،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متاحاً‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الفتن‭ ‬والاضطرابات‭ ‬والصراع‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬لكن‭ ‬دوام‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬المحال،‭ ‬فلم‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬أدركها‭ ‬الحمام‭ ‬عام‭ ‬822‭ ‬هـ‭ ‬،‭ ‬لتدخل‭ ‬المملكة‭ ‬بعدئذ‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬القلاقل‭ ‬والنزاعات،‭ ‬بعد‭ ‬تولي‭ ‬ابنها‭ ‬أويس‭ ‬بن‭ ‬شاه‭ ‬ولد‭ ‬السلطة‭ ‬خلفاً‭ ‬لها‭.‬

‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬كثيرون‭ ‬باسم‭ ‬الملكة‭ (‬دوندي‭) ‬أو‭ ‬يتناقلوا‭ ‬أخبارها‭. ‬لكن‭ ‬وجودها‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬أثبت‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬الشك‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬ليست‭ ‬رقيقة‭ ‬أو‭ ‬ضعيفة‭ ‬أو‭ ‬مرهفة‭ ‬الحس‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬تمتلك‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اقتضت‭ ‬الظروف‭ ‬إرادة‭ ‬صلبة‭ ‬وعزيمة‭ ‬قوية،‭ ‬تستطيع‭ ‬بهما‭ ‬هزيمة‭ ‬أعتى‭ ‬الرجال‭!.‬


مشاهدات 31
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/05/03 - 12:11 AM
آخر تحديث 2025/05/03 - 12:14 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 684 الشهر 3016 الكلي 10997020
الوقت الآن
السبت 2025/5/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير