لوقت طويل كنت أظن أن المرأة لا تمتلك القوة والشجاعة، اللتين تتمكن بهما من الإطباق على السلطة، والإمساك بتلابيب الحكم وكنت أعتقد أنها إذا ما وضعها القدر على كرسي الرئاسة، فلا بد لها من فريق من الرجال الأقوياء الذين يديرون لها الأمور، ويزيحون عنها العقبات.
لكنني بعد أن أطلعت على سير عدد من النسوة اللواتي حكمن في بقاع مختلفة من العالم، أدركت أنني قد جانبت الصواب، وأن إعطاء الفرصة لهن، في العراق أو سواه من البلدان، سيأتي بنتائج ناجحة جداً.
وقد حملني على هذا القول، ما ذكره المؤرخون عن سيدة حكمت العراق ومناطق قريبة منه مدة تزيد عن 9 سنوات، وهي أميرة من أميرات الترك، الذين استقروا في المنطقة بعد زوال حكم أسرة هولاكو في العراق وإيران، ولم تكن سلطانة العراق فحسب، بل كانت لشهور عديدة، سلطانة مصر أيضاً.
هذه المرأة المفرطة الجمال، اسمها (دوندي)، وهو اسم لا يخلو من عذوبة، ولا يستعصي على لسان، في زمن اختلطت فيه اللغات واللهجات، وانتشرت بين أبنائه العجمة، ولم تعد العربية فيه لغة النخبة من أهل الحكم.
و(دوندي) هذه هي ابنة السلطان حسين بن أويس الجلائري، الذي تعود أصوله إلى شرق منغوليا على بعض الأقوال، وكانت ضمن التحالف الذي قاده جنكيز خان لاجتياح الشرق الأدنى، فلما تضعضع حكم ورثة هولاكو، أطبقت هذه القبيلة على السلطة نيفاً وثمانين عاماً.
كان عمها السلطان أحمد أحد أقوى ملوك الجلائرية، وكان فاتكاً شجاعاً، فلما قدمت جيوش الفاتح الأعرج، تيمور، لاحتلال بغداد، اضطر هو وأسرته للهجرة إلى مصر، التي كان يحكمها المماليك، فدخل القاهرة عام 796 هـ، فاستقبله السلطان برقوق،وأكرمه.
وحينما شاهد الأخير (دوندي) ابنة أخ السلطان، خلب لبه جمالها، فطلبها للزواج ووافق العم، وبقيت معه أشهراً، ولما سمع السلطان أحمد بمغادرة تيمور بغداد، عزم على العودة إليها، ولم يكن هناك بد من طلاق الأميرة من السلطان، وهو ما حدث بالفعل.
وفي ما بعد قام السلطان أحمد بتزويجها من ابن أخ له اسمه (شاه ولد)، وكان يدير أمور بغداد نيابة عن عمه، فلما قتل السلطان على يد خصومه من رجال دولة (الخروف الأسود)، أصبح هو ملك العراق لمدة وجيزة، لم يلبث بعدها أن فارق الحياة.
وتفيد بعض الروايات أنه قتل بتدبير من زوجته (دوندي سلطان) نفسها، وتولى السلطنة من بعده ولده محمود، وكان مايزال صبياً. فكانت (دوندي) هي الحاكم الحقيقي وصاحبة الكلمة النافذة، ولم تستقر الأمور كثيراً في بغداد، إذ حوصرت من جديد، على يد ملوك (الخروف الأسود) ، فنزحت (دوندي سلطان) مع ابن زوجها السلطان محمود، إلى تستر عام 814 هـ، واستمرا في الحكم مناصفة خمسة أعوام، ثم دبرت له مقتلاً في عام 819 هـ، لتستقل هي بالحكم لوحدها.
ولم تنته طموحات (دوندي) عند هذا الحد، إذ لم تلبث أن استخلصت البصرة لنفسها من يد حاكمها الشيخ (مانع)، وأعقبت ذلك باستيلائها على واسط، فاتسعت مملكتها (وصار يخطب لها على المنابر، وتضرب باسمها النقود)، ومعنى ذلك أنها تمكنت من إرساء أسس الاستقرار في المملكة، وهو أمر لم يكن متاحاً في ظل الفتن والاضطرابات والصراع على السلطة، لكن دوام الحال من المحال، فلم تلبث أن أدركها الحمام عام 822 هـ ، لتدخل المملكة بعدئذ في عصر جديد من القلاقل والنزاعات، بعد تولي ابنها أويس بن شاه ولد السلطة خلفاً لها.
ربما لم يسمع كثيرون باسم الملكة (دوندي) أو يتناقلوا أخبارها. لكن وجودها على رأس السلطة في تلك الحقبة أثبت بما لا يقبل الشك أن المرأة ليست رقيقة أو ضعيفة أو مرهفة الحس فحسب، بل إنها تمتلك إذا ما اقتضت الظروف إرادة صلبة وعزيمة قوية، تستطيع بهما هزيمة أعتى الرجال!.