ضمان حقوق المواطن وتعزيز قدرات الدولة.. إستراتيجية الحفاظ على نزاهة القضاء
احمد فكاك البدراني
يُعد القضاء الركيزة الأساسية لأي دولة تقوم على العدل والحق ، فهو الملاذ الأخير للمواطن في وجه الظلم والانحراف ، والضامن لتحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد.
في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم اليوم ، تصبح الحاجة إلى قضاء نزيه ومحايد أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى ، باعتباره حجر الزاوية في بناء دولة التي يسودها حكم القانون وتديرها المؤسسات ، وأداة فعالة لتعزيز قدرات الأفراد ، وحماية الحقوق ، وصون الكرامة الإنسانية. وفي هذا السياق ، تبرز أهمية وضع استراتيجية شاملة للحفاظ على نزاهة القضاء وحياديته ، لما لذلك من انعكاسات عميقة على مستوى الفرد والدولة والمجتمع ككل.
أولًا: أهمية القضاء النزيه في حياة الأفراد والمجتمعات :
نظام القضاء هو صمام الأمان لضمان الحقوق والحريات ، وتحقيق العدالة الاجتماعية. فعندما يثق المواطن بنزاهة القاضي وحيادية المحكمة ، يشعر بالاطمئنان تجاه قراراتها ، ويقبل بأحكامها حتى وإن لم تكن لصالحه ، لأنه يدرك أنها صدرت وفق القانون لا وفق الهوى أو المصالح. وبذلك ، يصبح القضاء عنصرًا أساسيًا في تعزيز السلم الاجتماعي ومنع الفوضى والانتقام الشخصي.
كما أن القضاء العادل يخلق بيئة مستقرة وآمنة تشجع على الاستثمار وتدعم الابتكار ، إذ لا يمكن للمستثمر أو صاحب المشروع أن يخاطر بأمواله وجهده في بيئة تغيب فيها الثقة في الجهاز القضائي. لذلك ، فإن نزاهة القضاء لا تنعكس فقط على الجانب الحقوقي ، بل تتعداه لتشمل الجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أيضًا.
استراتيجية واضحة
ثانيًا: عناصر الاستراتيجية الفعّالة لضمان نزاهة القضاء :
إن تحقيق قضاء نزيه ومحايد لا يتم بالخطابات والنية الحسنة فقط ، بل يحتاج إلى استراتيجية واضحة المعالم ، متكاملة الأركان ، تعتمد على المبادئ التالية :
1. استقلال السلطة القضائية :
يجب أن يتمتع القضاء بالاستقلال الكامل عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ، سواء من الناحية الإدارية أو المالية أو في تعيين القضاة وترقياتهم. فالاستقلال هو الحصن الأول ضد التدخلات والضغوط ، وهو الضمانة الأساسية لحيادية القاضي وموضوعيته.
2. الشفافية في التعيينات والترقيات:
اختيار القضاة يجب أن يتم بناءً على الكفاءة والنزاهة وليس على الولاءات والانتماءات. كما أن نظام الترقية يجب أن يكون موضوعيًا يستند إلى الأداء والنزاهة ، لا إلى العلاقات الشخصية أو التوجيهات السياسية.
3. التكوين والتأهيل المستمر :
بات من الواضح ان العالم يتغير بسرعة ، وان القاضي بحاجة إلى مواكبة هذه التحولات من خلال التكوين المستمر في القانون والتكنولوجيا وحقوق الإنسان، ليبقى قادرًا على إصدار أحكام عادلة تراعي الواقع وتحترم القانون ، شأنه شأن الطبيب الذي عليه ان يواكب حركة التطور العلمي المتسارع على مدار الثواني وليس الساعات .
4. محاسبة القضاة عند الانحراف :
لا أحد فوق القانون ، والقضاة ليسوا استثناء. لذلك ، لا بد من وجود آلية مستقلة وشفافة لمراقبة أداء القضاة والتحقيق في أي شبهة فساد أو انحياز ، دون أن يُفسر ذلك تدخلًا في استقلال القضاء.
5. تعزيز الثقافة القضائية في المجتمع:
لا يكفي أن يكون القضاء نزيهًا ، بل يجب أن يشعر الناس بذلك أيضًا. فالتوعية بأهمية القضاء ، ونشر الثقافة القانونية ، والشفافية في نشر الأحكام ، كلها عوامل تساهم في بناء ثقة المواطن بالجهاز القضائي.
6. دور مجلس القضاء في الحفاظ المنظومة القضائية :
نجاح الأمم والدول بنجاح القضاء وقوتهِ ، ونجاح القضاء بنجاح مؤسسته التي تشرف على ادارتهِ وتنظم شؤونه ، فكلما ارتقى المسؤول او الرئيس ارتقت المؤسسة ، وقد اشتهر القضاء العراقي بالجدية والموضوعية والحرص على سمعة المؤسسة ، كان حقيقة مضرب مثل بين الدول العربية ، ولو نظرنا الى التاريخ نجد ان ابا يوسف القاضي هو أوَّل من نظَّم شؤون القضاء باستقلاليَّة إلى حدٍ ما عن السلطة التنفيذيَّة، وأوجد الزي الخاص بالقضاة ، تتحدد المهام القضائيَّة التي يضطلع بها قاضي القضاة في تعيين القضاة وعزلهم ومحاكمة الوزراء والأشخاص الذين يهددون الحكم ، وتسطير كتاب بيعة وخلع الخلفاء ، وعقد خطبة وزواج الخلفاء والأمراء ، وأحيانًا الحِسبة والنظر في المظالم ، فضلًا عن الفتيا. ان هذه المهام الجسيمة تتطلب قاضيا حازما يتمتع بكاريزما عالية وإلمام علمي بالفقه القانوني ، فضلا عن حرصه على مصلحة الدولة والمواطنين واحقاق الحق في كل حين ، ولعل وجهة نظري تذهب الى ان القضاء العراقي مازال بخير اذ يتولى رئاسة مجلسه قاضٍ يحمل مهنية عالية ، بطيئ الغضب ، لا يجامل ، وتجده اكثر حرصا على تطبيق العدالة والحفاظ على نزاهتها ، ولا يخشى اصحاب القوة عند اتخاذ القرار المناسب .
7. الحفاظ على القضاة الأكثر نزاهة :
تلمع اسماء القضاة لِما يملكون من الخبرة والدراية والنزاهة في كل مجتمع ، وتعلو الأسماء حتى تصبح مضرب مثل ، ولعل شريح بن الجهم الذي يُعد من أشهر القضاة فى الإسلام ، اذ مكث فى القضاء على الكوفة طيلة 60 عاما ، وتتابع الأسماء بحسب المواقف التي يتخذها القاضي في حسم الدعاوى ، من حنكة ،وقدرة على اتخاذ القرار ، ولعل قصة القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي اغرب من الخيال عندما تم فتح سمرقند عنوةً دون ان يسأل أهلها عن رغبتهم ، فحكم بإخراج الجيش وتخيير الناس في امرهم ، ما بين الدخول في الإسلام او ما يترتب على غير ذلك .
تطبيق مثالي للقانون
ولعل ظهور عدد من القضاة الشباب في هيئة النزاهة وهم يحرصون على صون المال العام من خلال المتابعة المستمرة والتطبيق المثالي للقانون يعد ركيزة ثابتة للحد من ظاهرة الفساد التي تجعلنا نعيش على أمل القضاء عليه ، ومن خلال متابعتنا القريبة لقضاة هيئة النزاهة والتحقيقات نرى ان مستقبل العراق بات قاب قوسين او ادنى من التعافي ، لاسيما ان جاد الوصل بحكومة مهنية اخرى مثل حكومة السيد محمد شياع السوداني
ثالثًا: دور القضاء النزيه في تعزيز قدرات الدولة :
القضاء العادل ليس مجرد أداة للفصل في النزاعات ، بل هو محرك أساسي لتقوية الدولة وتعزيز قدرتها على أداء وظائفها.
الدولة التي تحترم استقلال القضاء وتدعم نزاهته ، تكسب احترام مواطنيها وثقتهم ، مما يعزز التماسك الوطني ويقلل من النزاعات الداخلية. فضلا عن ذلك ، فإن الدول التي تتمتع بقضاء قوي ومستقل تحتل مراتب متقدمة في مؤشرات الحوكمة والشفافية ومناخ الاستثمار ، وهو ما يفتح الباب أمام مزيد من النمو والتطور.
القضاء النـــــــــزيه هو بوابة الاستقرار ، والاستقرار هو أساس التنمية ، والتنمية اساس الاقتصاد القوي .
رابعًا: التحديات والمعوقات :
رغم أهمية الاستراتيجية ، فإن الحفاظ على نزاهة القضاء يواجه تحديات عدة ، أبرزها :
•الضغوط السياسية والإعلامية :
والتي قد تحاول التأثير على القضاة في قضايا معينة ، مما يهدد حياديتهم ويزعزع ثقة الناس بالقضاء.
وهنا تظهر شخصية القاضي ، ويمكنني ان اجزم اليوم ان القضاة في هيئة النزاهة على درجة عالية من المسؤولية والحادية التي تجعل ثقة المواطن عالية بهم وبما يقررون .
• الفساد الإداري والمالي :
داخل المؤسسات القضائية ، والذي يفسد صورة القضاء ويحول دون تحقيق العدالة.
• ضعف الإمكانيات المادية :
حيث أن نقص الموارد قد يؤثر على فعالية القضاة وسير العدالة ، خصوصًا في الدول ذات الموارد المحدودة.
• عدم تحديث التشريعات :
مما يُبقي القضاء رهينة لقوانين قديمة لا تواكب تطور الحياة وحاجة المجتمع.
واخيرًا يمكن القول ان الحفاظ على نزاهة القضاء وحياديته ليس رفاهية قانونية ، بل ضرورة مجتمعية وسياسية واقتصادية واخلاقية ، وهو مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الدولة والمجتمع المدني والإعلام والمواطنين أنفسهم. فقضاء نزيه يعني دولة قوية ، ومواطنًا مطمئنًا ، ومستقبلًا أكثر عدلاً واستقرارًا.
إن الاستثمار في العدالة هو أعظم استثمار يمكن أن تقوم به دولة تسعى إلى بناء مستقبل مزدهر وآمن لأبنائها. ولذلك ، فإن بناء استراتيجية وطنية فعّالة لضمان استقلال القضاء ونزاهته ينبغي أن يكون في صلب أي مشروع إصلاحي حقيقي.
وزير الثقافة والسياحة والاثار