الجسد يُعاند الزمن في سينما عدي رشيد
السرد التقليدي بأناشيد آدم يتجاوز ملامسة تخوم الفلسفة
بغداد - حمدي العطار
في فضاء السينما العراقية الجديدة، يبرز فيلم (أناشيد آدم) (2024) للمخرج عدي رشيد كعمل يستنطق أوجاع الذاكرة الجمعية، ويُزاوج بين السرد الواقعي والتخييل الرمزي، ليخلق عالماً بصرياً يستوعب تعقيدات الزمن العراقي وتقلباته العنيفة. بأسلوبٍ يميل إلى الواقعية السحرية، يُعيد رشيد تشكيل العلاقة بين الزمن والجسد، بين الحكاية والتاريخ، بين الخيال والواقع، في سردية سينمائية تُثير الأسئلة أكثر مما تقدّم الأجوبة.
يكتب عدي رشيد نص فيلمه من موقع الراوي الذي يعرف أن الكارثة ليست في وقوعها، بل في تكرارها، وفي أثرها الذي لا يزول. من هنا، ينفتح النص على المجاز، ويحتفي باللامعقول، ليمنح الحكاية نَفَسًا سحريًا يُحرّرها من قيود الواقعية الصارمة، ويُتيح لها التحليق في فضاءات التخييل الرمزي. في هذا السياق، تتجلّى شخصية الصبي «آدم»، الذي يُقرّر، بإرادته، أن يُجمّد نموّه الجسدي، في معاندة صريحة للزمن الذي لا يحمل للعراقيين سوى الخيبات والمآسي.
آدم ليس مجرد طفل، بل استعارة بصرية لإنسان عراقي قرّر الانسحاب من دورة الحياة القاسية، وتوقّف عند حدود الطفولة، كي لا يُجرَح بما ينتظر البالغين من ألمٍ وفقدٍ وتشوّهٍ نفسي. هذا القرار الفردي يتحوّل إلى فعل رمزي، يرصد من خلاله رشيد أثر الأزمنة العراقية المتتالية، التي تتوالى على الشاشة عبر سنوات مفصلية (1946، 1952، 1964، 1981، 2014)، لتُشكّل خلفية تراجيدية لزمن الشخصية، دون أن تنزلق في خطاب سياسي فج، بل تتغلغل في النفوس بهدوء، كما تفعل الموسيقى أو الحكايات القديمة.
القرية الغربية التي تدور فيها أحداث الفيلم، تتحوّل إلى مرآة لعراقٍ مصغّر، حيث يبدو الزمن متوقفًا، أو كأنّه يدور في حلقة عبثية لا مخرج منها. سكان القرية يكبرون، ويتألمون، ويموتون، بينما يظل آدم كما هو، شاهدًا صامتًا على ما جرى وما لم يجرِ بعد. سجنه الانعزالي الذي فرضه عليه والده بعد قراره الغريب، لا يبدو عقوبة بقدر ما هو انعكاس لعزلة وطن بأكمله، يرزح تحت وطأة ماضيه.
في لحظة رمزية فارقة، يرى آدم جثمان جده، فيُدرك فجأة وحشية المصير، فيختار أن يوقف الزمن داخله، ربما ليُصغي إلى «أناشيده» الخاصة، تلك التي لا يسمعها أحد سواه. هذه الأناشيد ليست سوى تأويل شعري للواقع، صوت داخلي يُحاول النجاة من دوامة التاريخ، ويُعيد ترتيب العلاقة بين الحياة والموت، بين الماضي والمستقبل، وفق منطق الحكاية، لا منطق الواقع.
*بهذا الفيلم، يُقدّم عدي رشيد سينما تتجاوز السرد التقليدي إلى ملامسة تخوم الفلسفة، حيث يصبح الجسد معبراً عن مقاومة صامتة، والزمن ساحةً للصراع الداخلي أكثر منه ظرفاً تاريخياً. «أناشيد آدم» ليست مجرّد قصة عن صبي رفض أن يكبر، بل قصيدة بصرية حزينة عن بلد لم يُمنح فرصة للنمو الطبيعي، فاختار – كما آدم – أن يُجمّد لحظته، ويُحيل جراحه إلى نشيد داخلي لا يُسمع، لكن يُشعَر به عميقًا في وجدان المخرج.