الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ظل الشيخ .. لا وهجه

بواسطة azzaman

ظل الشيخ .. لا وهجه

منتصر صباح الحسناوي

 

العشائر في العراق كانت ولاتزال مؤسسة اجتماعية قائمة بذاتها، لها أعرافها وطبقاتها ومفاهيمها للسلطة والزعامة وفي عالمٍ تتداخل فيه السياسة بالمال والوجاهة بالمظاهر حتى بات من الصعب أحياناً التمييز بين المشيخة الحقيقية وتلك التي صُنعت في مكاتب الإعلام أو بطاقات الدعوة.

من شيخ الأرض إلى زعامات افتراضية

في العهد العثماني كان شيخ العشيرة يُمثّل سلطةً المالك للأرض مع المال والسلاح مثلث السلطة.

ومن رحم هذه السلطة ظهرت»الإمارات العشائرية» التي كانت تدير شؤونها باستقلال نسبي تحكم به الأرض ومن عليها.

وكان حينها انتقال الزعامة يجري ضمن نظام واضح يُعرف بـ»بيت المشيخة»، إذ تُورّث القيادة لأحد الابناء أو الاخوة ضمن معايير عرفية  تحظى بقبول داخلي مع وجود مصالح اقتصادية ترتبط بمن مُهد له للسيطرة والتحكم بأرض المشيخة او ما يسمى أرض المضيف .

ولم يتغير الحال في ظل الاحتلال البريطاني والعهد الملكي حتى قيام الجمهورية .

 قانون الإصلاح الزراعي ضربة الجذور

مع صدور قانون الإصلاح الزراعي في خمسينيات القرن الماضي فَقَدَ كثير من شيوخ العشائر أراضيهم الشاسعة التي كانت تمثل مصدر سلطتهم الاقتصادية وما لها من أثر اجتماعي وسياسي اضعفت منظومة كاملة من النفوذ والتبعية والولاء.

ثم جاء نظام البعث ليُكمل هذا التحجيم باعتماده سياسة مزدوجة قلصت بها نفوذ العشائر رسمياً ثم استثمره عند الحاجة، فتدخل في نسيجه وعيّن شيوخاً بقرارات سلطوية مبنية على الولاءات أو  بقصد التفتيت من خلال شجرة النسب، مما أدى إلى خلخلة الأعراف التقليدية وفتح الباب لطبقة جديدة من الشيوخ والانتماءات.

ما بعد 2003 فوضى التمثيل وتكاثر الألقاب

كان هناك لحظة تحوّل اجتماعي عادت فيه العشائر لتملأ الفراغ ولكن من باب الحاجة لا من باب التنظيم.

وبتدخل أطراف سياسية متنازعة ظهرت طبقة جديدة من «شيوخ الدعم السياسي» الذين اكتسبوها من التحالفات والظهور الإعلامي والمال.

ثم بدأت ظاهرة تكاثر الشيوخ وكذلك الالقاب الجديدة  التي تفتقر غالباً إلى الامتداد الشعبي أو العمق العرفي. والنتيجة؟ زعامات متعددة وألقاب متضاربة.

ما الضابطة لاختيار الشيخ؟ توريث أم استحقاق؟

في العرف العشائري تُورّث المشيخة عادة داخل ما يُعرف بـ»بيت المشيخة» وهي العائلة التي دأبت تاريخياً على حمل الزعامة.

 لكن الوراثة هنا ليست تلقائية بالكامل، إذ يُنظر إلى عدة معايير عند اختيار الشيخ الجديد:

أن يتحلّى بالحكمة وسعة الصدر والكرم.

أن يمتلك حضوراً اجتماعياً ووجاهة ودراية في حل النزاعات.

أن يحظى بقبول واسع داخل العشيرة بفروعها المختلفة.

ومع ذلك، فإن هذه الضوابط لم تعد كافية لوحدها في ظل الظروف السياسية والاجتماعية المتغيرة.

أصبحت الزعامة في بعض الحالات تُمنح أو تُفرض بدعم سياسي أو مالي، دون اعتبار للشرعية العرفية، مما أدى إلى نشوء زعامات متعددة داخل العشيرة الواحدة، وأحياناً تنافس محتدم على لقب الشيخ، تُغذيه الولاءات والانقسامات.

فضلاً عن تنامي المشايخ الافتراضية ولا سيما في المدن الحضرية التي غزتــها هذه الظاهرة .

التنافس على المشيخة

تبدأ المنافسة حول التصدي للزعامة داخل عوائل المشيخة أو من يتصدون لها، ثم تنتقل بالتدريج إلى الأبناء وافراد العشيرة التي تُقسَّم على إثر ذلك إلى اطراف متنازعة كل منها يرفع راية ويهمّش الآخر.

وقد يتخذ الانقسام أشكالاً ناعمة في البداية لكنه سرعان ما يظهر على شكل قطيعة اجتماعية أو تنازع على الألقاب أو حتى صراعات ميدانية في بعض الحالات.

 الطموح المهدد للعرف ولعرش المشيخة

ينظر العرف العشائري  إلى المشيخة على أنها إرث محفوظ داخل ما يُعرف بـ»بيت المشيخة»، إلا أن الواقع لا يخلو من مفارقات.

فماذا لو برز أحد أفراد العشيرة من خارج هذا البيت وتمتع بصفات القيادة وامتلك حضوراً اجتماعياً، وبدأ الناس يلتفّون حوله؟

في الغالب يُنظر لهذا الصعود كتهديد صريح لعرش المشيخة.

وهنا تبدأ سلسلة التنكيل من التشويه الاجتماعي ومحاولات الالغاء، ويتحول الامر الى تحدي يخوضه المتصدي مع ممارسة العزل الاجتماعي الذي  إن اجتازه فقد يُؤسس لمشيخة جديدة، لكنها تكون في الغالب محفوفة بالمخاطر وقد تفتح باباً لانقسام العشيرة بدل توحيدها... إلا في حالات نادرة يكون فيها الحضور والقبول المجتمعي والرسمي  أقوى من القيود العرفية.

وهكذا، يكون العرف جدار صدّ بوجه أي محاولة لتجديد دماء الزعامة.

موقف المجتمع  من المشايخ

 تغيرت نظرة الأفراد تجاه الشيخ وتجاه المؤسسة العشائرية برمّتها.

في السابق، كانت سلطة الشيخ نابعة من المال والقوة والجاه بالإضافة إلى صفات ومهابة شخصية متوارثة.

أما اليوم، فالأمر لم يعد كما كان، فالمال لم يعد حكراً على بيت المشيخة والقوة تراجعت بوجود الدولة.

أفراد العشيرة أنفسهم أصبحوا أكثر تنوعاً في توجهاتهم ومصادر دخلهم مع قلة تعداد سكان الريف انفسهم جراء الانتقال الى المدينة، وايضا اصبح المجتمع العشائري أكثر وعياً بحقوقهم وحدود الالتزام العشائري.

فالعلاقة بينهم وبين الشيخ أصبحت علاقة من الانتماء المبني على الاحترام أكثر منها علاقة «خضوع دائم»، تبرز الحاجة للشيخ الان وقت الأزمات المجتمعية و الوساطات والمشكلات، بينما يحتفظ الأفراد بحياتهم المستقلة في التعليم، الوظيفة، والسلوك والاختيار.

أما المجتمع المدني بسيط المعرفة بالاعراف العشائرية ورموزها قد يُطلق لقب «شيخ» على كل من يلبس عباءة أو يظهر في محفل اجتماعي، ما جعل الفارق بين الشيخ الحقيقي والمـصطنع ضبابياً عند الكثيرين إذ انخدع المجتمع في كثير من الأحيان بمن لا يمتلكون من المشيخة سوى مظاهرها.

المشيخة بين الأصالة والمظهر

بعيداً عن المثاليات فإن الزعامة العشائرية لا يمكن فصلها عن التاريخ والمكان، صحيح أن الزمن تغير وأن الســـــــلطة العشائرية تراجعت لحساب الدولة، لكن هذا لا يعني أن تُختزل المشيخة في بطاقة تعريف أو منشور فيسبوك، فما يفتقر إليه المشــــــــــهد العشائري اليوم هو استعادة المعنى الحقيقي للمشيخة الذي لا يُبنى على اللقب ولا على المال بل على شرعية الرأي والحكمة وحسن القيادة، وقدرة الشيخ على أن يكون مظلة لا راية خلاف.

ويبقى المشايخ الأصلاء بما يكنّ لهم من احترام ومهابة وبما يتحلّون به من خُلق وعدالة كالضوء الذي لا يُنكر وكالخيمة التي لا تزال قادرة على أن تجمع الصف وتُلملم الشَتات.

إنهم البوصــــــــــلة الصامتة التي تشير دوماً إلى المعنى الحقيقي للمشيخة .

 


مشاهدات 207
الكاتب منتصر صباح الحسناوي
أضيف 2025/04/15 - 3:37 PM
آخر تحديث 2025/04/16 - 4:50 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 243 الشهر 15278 الكلي 10595925
الوقت الآن
الأربعاء 2025/4/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير