الفرد والمجتمع..من يقود الآخر؟
محمد زكي ابراهيم
يحاول البعض عندنا الغض من قيمة الفرد والتهوين من شأنه لصالح الجماعة، والزعم أن دوره في بناء الحضارة هامشي ومحدود، وأن من يصنع التغيير هو المجتمع، ومن الخطأ التعويل على شيء اسمه المبادرة الفردية، لأنها تحرف الانتباه عن الفاعل الحقيقي.
وبسبب هذه الفكرة، جرى استبعاد الكثير من الطاقات، وحورب عدد لا يُحصى من الأشخاص، ولم يعد ثمة من يجرؤ على التصريح بأن الأفراد النابهين هم الذين يصنعون التاريخ. وهم بالطبع قلة قليلة في كل عصر، ومنهم ويا للغرابة أولئك الذين أطلقوا نظرية الجماعة!
وقد جرني إلى هذا الحديث الصراع الذي اشتجر بين قطبين من أقطاب الفكر الإسلامي، أحدثا انقلاباً هائلاً في العقول، قامت على آرائهما دول، ونشأت بسببهما مدارس ومذاهب وتيارات، هذان القطبان هما الغزالي وابن رشد.
والواقع أن ما اشتغل عليه الرجلان في كثير من جوانبه وثيق الصلة بحياتنا اليومية، إذ يتناول العلاقة بين الفلسفة والشريعة، أو الحكمة والدين، والموقف من حرية الرأي والاعتقاد.
كان أبو حامد الغزالي (450 – 505 هـ)، المولود في طوس بإيران، متكلماً أشعري النزعة، الأمر الذي أهّله للانتقال إلى بغداد والتدريس في مدرستها النظامية، لكنه، بعد أن استغرق في الاشتغال بالفلسفة، اعترته نوبة من الشك دفعته للعدول عن اهتمامه هذا، وتوصل إلى أن اليقين لا يمكن بلوغه عن طريق العقل، فهاجم الفلاسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة” وكفّر فيه كبار حكماء المسلمين مثل الكندي والفارابي، وصنّف كتباً أخرى مثل “المنقذ من الضلال” و “إحياء علوم الدين” في الغرض ذاته.
وقد تركت حركته هذه آثاراً كبيرة على الفلسفة امتدت قروناً، وما يزال ملايين المسلمين مأخوذين به حتى اليوم، ونحن نعرف دون شك ماذا يعني استبعاد الفلسفة في عملية بناء المجتمع والأحزاب والدول، والدور الذي يلعبه تغييب العقل في حياتنا المعاصرة!.
وقد تصدى أبو الوليد بن رشد (520 – 595 هـ)، القرطبي الأندلسي، لهذا الانقلاب الخطير، وأعمل فكره في بيان ضرره على العقول، وحينما سمع به الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف، دعاه إليه وقرّبه منه، وعينه قاضياً للقضاة.
وكانت هذه الدولة، التي أنشأها محمد بن تومرت (471 – 524 هـ)، تعاني من نفوذ فقهاء المالكية، الذين يرمون كل مشتغل بالمنطق بالزندقة، ويضعون العقبات أمام دراسة الفلسفة، حتى ظهر ابن رشد، فعمل أولاً على شرح وتفسير كتب أرسطو ونشرها على الملأ، وهي ذاتها التي تُرجمت فيما بعد إلى اللاتينية، وبقيت تدرّس في جامعات أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي، أي بعد وفاة ابن رشد بثلاثة قرون، ثم أعقبها بمصنفات كثيرة زادت على الستين كتاباً.
إن مؤلفات ابن رشد تقوم على التوفيق بين الدين والفلسفة، أو الحكمة والشريعة، والتأكيد على أن الوحي لا يناقض العقل، وأن القرآن الكريم دعا إلى إعمال النظر والفكر، ونبذ الجمود والتزمت، وضمن ذلك كتابه الشهير “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال”، كما هاجم الغزالي في كتابه الآخر “تهافت التهافت”.
كان تأثير ابن رشد طاغياً بعد أن أعاد الاعتبار للفلسفة، ودافع عن حق التأويل، وقام بنقد المناهج السلفية التي قامت عليها بعض التيارات والفرق، وإليه يرجع الفضل في نشوء علم جديد اسمه “مقاصد الشريعة”، بل إن بعض الأوروبيين بادر إلى إبراز دوره كزعيم لثورة لاتينية على الكنيسة الرسمية.
فهل هناك من يستطيع الزعم بأن تأثير الفرد الواعي لا يمكن الاعتداد به، وأن المجتمع هو الذي يقود عملية التغيير وصناعة التاريخ؟ وهل ثمة من يدعو إلى الحجر على النابهين ومساواتهم بعامة الناس في المنزلة والأهمية والنفوذ؟.