إن تضخم عدد السكان في العراق إلى ما يلامس الخمسين مليوناً، لا يعني أنهم باتوا كتلة بشرية هائلة، أو أنهم تحولوا إلى رقم صعب، فالكثرة لوحدها لا تعني القوة، بل إن هذه الكثرة قد تصبح معضلة كبيرة إذا لم تصحبها تنمية حقيقية، فالثروات التي بأيديهم الآن غير مضمونة تماماً، وإذا ما نضبت ذات يوم – لا سمح الله – فستتراجع أعدادهم إلى ما كانت عليه قبل عقود، ويخسرون كل ما يحلمون به من نفوذ.
ومن المؤسف أن الناس في هذه البلاد يعتقدون أن التقدم لا يتحقق إلا عبر الانخراط في السياسة، وتشكيل الأحزاب، والصراع على السلطة، فالفئة التي تروم وضع برامجها موضع التنفيذ لا تفكر إلا بإزاحة فئة أخرى، بغض النظر عمن تكون، ومن أجل هذا تتحالف مع هذا الطرف أو ذاك، وتقدم التنازلات تلو التنازلات، ولا تعلم أن كل ما تفعله لا يغني عن الحق شيئاً.
ولو أنصف هؤلاء لعرفوا أن كل ما يفعلونه عرض زائل، فالسبيل الوحيد للتقدم هو التنمية، ولا شيء يمكن أن يكون بديلاً عنها، وهي لحسن الحظ لا تحتاج إلى الكثير من النظريات، والأفكار، والمناصب، والزعامات السياسية، لأنها عملية محايدة، وفي الغالب تتصالح مع الجميع، وتمد الجسور إلى من تشاء، دون أي حرج أو معاناة، لكنها تعني في ذات الوقت، النفوذ والهيمنة.
والواقع أن سلوك طريق السياسة لا يؤدي إلا إلى المتاعب، ولا يقود إلا إلى الخراب، لأنه لا يقوم على قاعدة منطقية، وقد جربت شعوب كثيرة الانجرار إلى هذا الوهم، ولم تجن منه شيئاً، فالسياسة لوحدها غير قادرة على تغيير أحوال الناس، أو تحسين ظروفهم الحياتية، وغاية ما هنالك أن البعض يرى أن العقيدة السياسية قادرة على الانتقال بالبلاد من وضع لآخر أفضل منه، أي خوض تجربة قد تنجح وقد لا يحالفها التوفيق أبداً، مع أن مفهوم السياسة يعني في أحسن الأحوال، فن إدارة السلطة.
لقد قاد العقل دولاً كثيرة إلى موقع الصدارة، وجعلها تمتلك قوة التأثير، لكن التفكير المجرد لا يستطيع لوحده أن ينهض بهذه المهمة، ولم يحدث التقدم في أي زمان ومكان إلا بالعلم والتقنية، والعمل الدؤوب، بعيداً عن كل رغبة في الحكم.
وفي عملية تنمية منظمة تتطور المهن باستمرار، ولا تقف عند حال أبداً، ويقوم الصناع والعمال والفنيون بإضافات جديدة بين الحين والحين، لأن الحاجة هي التي تفرض عليهم الابتكار، وبتعبير أدق فإن قوانين السوق تحتم عليهم البحث الدائب عن الأفضل، فالشركات المنتجة للسلع مثلاً، تطور كل عام أو عامين نسخاً جديدة، وتضيف تقنيات بسيطة، رغبة في التفوق، أو التغلب على المشاكل، أو الحصول على زبائن جدد، ولا يتوقف هذا عند نقطة ما، بل يستمر حتى النهاية.
إن التنمية تتيح للصناعة أو الزراعة أو الخدمات أن تتقدم باستمرار، وتوفر الجهد والمال، وتعطي مزيداً من الرفاهية للمجتمع، وكل إضافة صغيرة كانت أو كبيرة، تحصل عليها هذه المنتجات تأتي عبر الدرس، والتفكير، والتجربة، وتتيح للبلاد أن تتقدم وتتغير، ولا تقف عند حال.
هل تدرك النخبة لدينا أن الأولوية يجب أن تكون للتنمية، والمبادرات الفردية، والاقتصاد الحر، لأنها السبيل الأمثل للتقدم، والطريق الأقرب للسلطة؟ وهل تعلم أن القادة الحقيقيين في أي مجتمع من المجتمعات هم رجال الأعمال الناجحون، وماعداهم ليسوا سوى أدوات وتابعين، ربما لم تكن على دراية أنها أضاعت الكثير من الوقت والجهد في العقود السابقة، في أمور غير ذات جدوى، وعليها الآن أن تصحح موقفها قبل فوات الأوان.