الإعلام .. الديمقراطية وتجارة الرمز
عدنان سمير دهيرب
الحكم الرشيد لا يقوم من دون معادلة متساوية في الدور بين الحاكم والمحكوم , و ما بينهما نضج الاعلام والتواصل للارتقاء بالعملية السياسية للنظام الديمقراطي . لأن الاعلام هو الغذاء الذي يسهم بتزويد الجمهور بالأخبار و المعلومات والمعارف التي تضئ الواقع مع توفر عناصر الديمقراطية كالحرية والشفافية والتعددية والتسامح والمحاسبة للحاكم , و تكشف عن مدى تجانس أو تطبيق الخطابات و البرامج في الواقع . تلك العلاقة تشكل معادلة طردية و علاقة عضوية بين النظام الجديد و الاعلام و إرتفاع مستوى الوعي لتـــــــــــشكيل الرأي العام إزاء الواقع بكل جزئياته . بل إن الاعلام والتواصل و حرية التعبير عن الرأي تُعد جوهر الديـــــــــــمقراطية و ضمان إدائها السليم .
عقد كامل
و إذا ما كان الدور فقط للحاكم عندئذ يمنح طوعياً فرصة التفرد بالقرار و الاستبداد في الحكم . و يفقد المواطن حقه بالمواطنة و هي (عقد قانوني يحدد إنتماء الفرد الى الدولة . و يحتوي هذا العقد كامل حقوقه و يفصل واجباته وإمتيازاته ) لحفظ كرامته و الارتقاء بانسانيته .
إن دور المواطن و إسهامه يتجسد في الاختيار الواعي و القدرة على المساءلة , و قبلها التخلص من الخطأ الراسخ في اللاوعي إن القرارات المتعلقة بالوطن و الشعب هي من واجبات الحكومة فقط , ما ينتج إختلالاًفي معالجة الحاجات الانسانية و الاساسية للمجتمع , و خلق زبائنية للمسؤول تؤدي الى الخضوع من خلال البروباغندا و المواربة التي تسوق لتضليل الجمهور , باستخدام وسائل مختلفة للعزف على المشاعر و الغرائز التي تتغلب على العقول في المجتمعات العاطفية و تتفشى فيها الأمراض الاجتماعية .
إذ أن لكل مبدأ , أو قيمة مثالية للاعلام , ثمة وجهان , لا وجه واحد لكل قيمة و لكل مبدأ , وجه خير و مثالي , و وجه إنساني بمعنى الضعف و النزق , قد تبدوا الاختلافات بين (الوجهين) ضئيلة و غير مرئية للعين المجردة , لا بل قد تكون للوهلة الأولى مجرد ظلال باهتة (Nuances) لكن المسافة الأخلاقية و المهنية , حتى لو كانت مجهرية , تولد إنحرافاً حاداً و تراجعاً هائلاً , بالسمو الانساني و بالأداء المهني المثالي . (رمزي النجار , وجهة نظر و سفر) .
و هذا الأمر يسهم بخلق اللامبالاة و الشعور بالاغتراب السياسي الذي يتسلل الى المواطن , و يفضي , الى رسوخ الحكم الأوليغارشي (حكم القلة) و إحتكار السلطة على أسس طائفية , لاصدار القوانين و القرارات التي تتوافق مع ما تحمل تلك الجهات السياسية من ايديولوجية . و قد تجلى ذلك في وقوع العراق في عام 2024 بالمرتبة 182 من أصل 197 دولة في مؤشر الحرية الأنسانية العالمي و المرتبة 140 عالمياً وفق منظمة الشـــــــــفافية العالمية من أصل 180 دولة .
مراكز بحثية
ما يؤكد تراجع أهم سمات الديمقراطية في النظام الجديد و عدم ضبط إيقاعه في عملية الاصلاح بعد أكثر من عشرين عاماً من الولادة التي طبقت فيها خطط المراكز البحثية أو (دبابات الفكر) الأمريكية , و ابرزها الفوضى الخلاقة , التي مازالت تشكل تحدياً للدولة و الشعب ’ تتمثل باحياء النعرات الطائفية و الخلافات العرقية لتأجيج الصراعات السياسية , التي أمست مادة إعلامية تسهم في التقسيم اللامرئي للمجتمع و إختراق السلم الأهلي .
لذلك فأن تجربة الحكم أو النظام الجديد تتطلب سنوات قد تزيد عما مضى , اذا لم تستفد من الكبوات السابقة ومحاكاة التجارب و الانظمة المشابهة في بلدان أخرى , و قبلها الإرادة والوعي و دينامية العمل بين الجمهور و الساسة , مع تجاوز وسائل الاعلام و منصات التواصل لمرحلة المراهقة , بضرورة إلتزامها للشرعة الاخلاقية والمهنية إزاء القضايا الوطنية , وليس أدوات لتسويق خطابات مذهبية وعرقية غارقة بالكراهية مع كل أزمة مفتعلة من الطبقة السياسية تحصد فيها المكاسب لإدامة تمسكها بالسلطة و تعزز حضورها التحاصصي لتحقيق الاهواء و المصالح التي تفترق مع تطلعات الأنام في التغيير و الاصلاح . إن تجاوز هذه القضايا و غيرها والشروع بتأسيس دولة مدنية هو السبيل للوصول الى مرحلة بلوغ التجربة الديمقراطية , و ليس إطلاق الشعارات الفارغة و الخطابات المزيفة التي تثير السأم , وساسة غاياتهم أن ترفع صورهم في الشوارع و أحياء العشوائيات البائسة التي أصبحت علامات لمداخل و أطراف المدن لأقناع سكانها بكذبة المنقذ و الرمز , و الأدق التاجر بحرمان المهمشين .