الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حميد الحريزي: نبع الرواية القصيرة جداً في العراق


حميد الحريزي: نبع الرواية القصيرة جداً في العراق

شوقي كريم حسن

 

حميد الحريزي، الروائي النجفي الذي أطلق نفسه في فضاءات السرد ليُعيد تشكيل مفهوم الرواية القصيرة جداً ويضعها في قلب المشهد الأدبي العراقي، لم يكن عبوره إلى هذا النوع من الكتابة مجرد مغامرة عابرة، بل كان محاولة مدروسة لتطوير الذات والبحث عن هوية سردية تمتاز بالإيجاز والغنى. في بيئة أدبية تهيمن عليها الرواية الطويلة، تجرأ الحريزي على اختصار المسافات، مكتفيًا بحفنة من الكلمات لتصوير أبعاد هائلة من المعاني.تميزت أعمال الحريزي بالتكثيف السردي، حيث يخفي في جمل قليلة عوالم كاملة، يجيد توظيف اللغة والشخصيات لتصبح كل جملة بمثابة بوابة إلى تأملات وأحداث، متجنبًا الحشو والإطالة. فنه يشبه قنديلًا صغيرًا يضيء ظلالًا واسعة، مستفيدًا من الاقتصاد اللغوي لإيصال المعنى بأقصى تأثير.رغم أن تجربة الرواية القصيرةجداً لم تكن رائجة في العراق، إلا أن الحريزي تمسك برؤيته، محاولًا أن يُثبت لهذا المشهد الأدبي أن القصة الموجزة لا تقل عُمقًا أو جمالية عن نظيراتها الأطول. ومع ذلك، ورغم أصالة مشروعه، لم ينل الاهتمام النقدي الذي يستحقه. ربما لأن الذائقة العراقية اعتادت على ضخامة البناء الروائي، أو لأن النقاد أنفسهم لم يكونوا مستعدين للتفاعل مع هذا النوع من التجريب.إن مشروع حميد الحريزي يتطلب دعمًا نقديًا مكثفًا يعيد تسليط الضوء على هذه التجربة الفريدة، ليس فقط باعتبارها إضافة نوعية للأدب العراقي، بل كنقطة انطلاق لأجيال جديدة من الكتاب الذين يسعون لتطويع الرواية بشكل يتماشى مع إيقاع العصر السريع.إذا كان الحريزي قد وقف منفردًا في مسعاه، فإن على الأدب العراقي أن يحتفي به كـ”نبع الرواية القصيرة جداً”، الرجل الذي استوعب طاقة النص القصير وحوله إلى ميدان مليء بالأحداث والشخصيات التي تستمر في العيش بعد أن يغلق القارئ الكتاب.

في عالم حميد الحريزي، لا مكان للزينة الزائدة أو التفاصيل التي تفتقر إلى ضرورة، فكل كلمة تُحشد بحساب، لتُكثف المشاعر والرؤى، ولتقدم مشاهد تُرسخ في ذاكرة القارئ دون عناء. إنه الكاتب الذي يلتقط جوهر اللحظة، ويحولها إلى انعكاس لمشاعر إنسانية أكبر من حدود النص.ومع ذلك، فإن الحريزي لا يكتب من فراغ، بل يستلهم من بيئته النجفية العريقة ومن ذاكرته الغنية بتجارب الحياة والإنسان. يدرك تمامًا أن الرواية القصيرة جداً ليست مجرد تقليص لحجم النص، بل هي فن قائم على الدقة، تتطلب مهارة لا تقل عن كتابة الروايات المطولة. وهذا ما يميز تجربته، إذ استطاع أن يخلق نصوصًا مشحونة بالأسئلة، تضع القارئ أمام مرآة ذاته أو واقعه.لكن في الوقت الذي يجاهد فيه لتكريس الرواية القصيرة جداً كجنس أدبي قادر على المنافسة، تظل العقبات ماثلة، بين غياب الترويج الكافي، وتقصير الجهات الثقافية في تسليط الضوء على هذه النوعية من الأعمال. ومما يؤسف له، أن أعمال الحريزي لم تحظَ بالترجمة إلى لغات أخرى، ما يحرمها فرصة التفاعل مع سياقات أدبية أوسع.الحديث عن حميد الحريزي هو حديث عن جرأة التمرد على الأطر التقليدية للأدب، عن كاتب اختار طريقًا شاقًا ليُعلن عن مشروعه الروائي. فهل ستشهد الثقافة العراقية في المستقبل انتعاشًا لهذا النمط، مدفوعة بأمثاله من الرواد؟ وهل ستُمنح تجربته ما تستحقه من اهتمام لتتحول من محاولة فردية إلى تيار مؤثر؟ربما الإجابة تكمن في يد المؤسسات الثقافية، والنقاد، والقراء أنفسهم، ليعيدوا قراءة الحريزي، ليس كفرد، بل كظاهرة تتطلب التفاتة حقيقية، ليبقى نبع الرواية القصيرة جداً متدفقًا في قلب الأدب العراقي. إن تجربة حميد الحريزي في الرواية القصيرة جداليست مجرد إضافة نوعية إلى الأدب العراقي، بل هي نافذة تفتح المجال لتأمل أفق جديد يمكن أن يُحدث تحولًا جوهريًا في أساليب الكتابة وسرعة التفاعل مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية. لقد أصرّ الحريزي على أن يُثبت أن الإيجاز لا يعني التقليل، وأن الاقتصاد السردي ليس تنازلاً عن العمق، بل هو فن التغلغل إلى الجوهر بأقل الوسائل الممكنة.لكنّ هذا المشروع لا يمكن أن يكتمل بمعزل عن بيئة نقدية تُدرك أهمية هذا النوع الأدبي، وقرّاء قادرين على التفاعل معه. فكما هو الحال مع كل التجارب الرائدة، تحتاج الرواية القصيرة جداًإلى تبنيها كجنس أدبي مستقل، له مكانته في المناهج الدراسية والفعاليات الثقافية، وإلى دعم مؤسسي يسعى لترجمة هذه النصوص ونقلها إلى العالم.حميد الحريزي ليس مجرد كاتب، بل هو صانع رؤية. اختياره الرواية القصيرة جداًيعكس فهمًا عميقًا لتحولات العصر ومتطلباته، فإيقاع الحياة اليومي المتسارع يتطلب نصوصًا تستطيع أن تخاطب القارئ بعجالة، دون أن تُخلّ بجماليات النص أو رسالته.وعلى الرغم من كل التحديات التي واجهها في رحلته الإبداعية، فإن الحريزي ظل مخلصًا لمشروعه، مؤمنًا بأن الأدب ليس في طوله أو حجمه، بل في قدرته على اختراق أعماق الإنسان. ومن هنا، يمكننا أن نقول إن الحريزي هو نبع يتدفق بصمت، لكنه قادر على ترك أثره الدائم في أرض الأدب العراقي.و مهمة تكريس تجربة حميد الحريزي لا تقع على عاتق الحريزي وحده، بل هي مسؤولية الجميع: النقاد، المثقفون، والكتاب الشباب الذين يمكن أن يجدوا في تجربته نموذجًا ملهمًا لتجاوز التقليدي واستحداث أنماط جديدة تتماشى مع المتغيرات. ربما يومًا ما، سنرى جيلًا من الكتاب يُكمل مسيرة الحريزي، حاملين شعلة الرواية القصيرةجداً إلى آفاق أوسع، لتكون هذه الشعلة نورًا جديدًا يُضيء مسيرة الأدب العراقي.إن ملامح تجربة حميد الحريزي تشكل دعوة للأدب العراقي ليعيد اكتشاف نفسه بعيدًا عن الأطر التقليدية، وللتأمل في كيفية تفاعل الكتاب مع أدوات السرد الجديدة التي تتماشى مع الواقع المتغير. الحريزي لم يكن مجرد كاتب يعمل على اختصار النصوص، بل كان شاعرًا للحظة، قادرًا على اختزال العواطف والصراعات الإنسانية في كلمات معدودة، مما يجعل كل نص منه يشبه قصيدة سردية مليئة بالأبعاد المتراكبة.ومع تطور الأدب العراقي في العقود الأخيرة، بدأنا نلمس تغيرًا تدريجيًا في الذائقة الأدبية، وربما يكون قد حان الوقت كي تحظى الرواية القصيرةجداً بنظرة أكثر عمقًا. هذا النوع الأدبي الذي كان يُنظر إليه أحيانًا على أنه تجريب مبدئي أو غير مكتمل، يمكن أن يكون له دور محوري في تشكيل الأدب المعاصر إذا تم دعمه بتوجيه نقدي مؤهل وتوفير فرص أكبر للنشر والتوزيع.ولكن الطريق إلى تكريس الرواية القصيرةجداً في الثقافة العراقية ليس سهلاً. هو بحاجة إلى تضافر الجهود بين المبدعين والنقاد والمطابع، وكذلك إلى مبادرات من المؤسسات الثقافية التي تدرك قيمة هذه التجربة وتسعى لتسليط الضوء عليها. كما يجب على الأجيال الجديدة من الكتاب أن تأخذ على عاتقها مهمة نقل هذا النوع الأدبي إلى مراحل متقدمة، ليكون جزءًا لا يتجزأ من الهوية الأدبية العراقية.، يبقى حميد الحريزي رمزًا للإبداع الذي يصر على عدم التقليدية، وفي قدرته على جعل النص القصير محيطًا واسعًا من المعاني والظلال. ربما لا يزال حريصًا على أن تبقى روايته القصيرة في الظل، لكن الأضواء التي يبعثها هذا الظل يمكن أن تضيء مسارات جديدة للأدب العراقي، محققة حلمًا بأن الرواية القصيرة جداًلن تكون مجرد تجربة شخصية، بل تيارًا أدبيًا تتبناه الأجيال القادمة وتُطور من خلاله رؤاها الخاصة.!!.

 


مشاهدات 166
الكاتب شوقي كريم حسن
أضيف 2025/02/17 - 3:37 PM
آخر تحديث 2025/02/22 - 2:33 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 269 الشهر 11905 الكلي 10407276
الوقت الآن
السبت 2025/2/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير