الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عن زمن الراديو الجميل

بواسطة azzaman

أذن وعين

عن زمن الراديو الجميل

عبد اللطيف السعدون

 

عرفت هذا الساحر الغريب المثير للعجب وأنا أدرج نحو أول عام دراسي، ربح أخي الكبير خمسين دينارا في نصف بطاقة “اليانصيب الموحد الوطني”، كانت مبلغا كبيرا في ذلك الزمان، اشترى راديو «كرونديك» الألماني، ووضعه على طاولة صغيرة في رواق منزلنا، وتحلقنا من حوله جالسين على تخوت خشبية مرتفعة قليلا عن الأرض منصتين للصوت الذي يخرج من شبكة الراديو بلهفة وحيرة.

بعد دزينة سنين قدر لي أن أعمل في الإذاعة، وشرع صوتي يخرج من شبكة الراديو، وعديد يستمعون لي في أصقاع قريبة وبعيدة لكنهم لم يكونوا ليحملوا تلك اللهفة والحيرة اللتين عرفناها ونحن أطفال، فقد تغير الزمان وأصبح الراديو صديقا لكل أفراد الأسرة الذين عرفوا كيف يتعاملون مع «التكنولوجيا» التي دخلت منازلهم على غير استئذان، بألفة وحميمية، وتقلص العالم حتى أصبح «قرية صغيرة» على النحو الذي قال به الكندي مارشال ماكلوهان.

يوم عالمي

مبعث هذا الاستذكار مبادرة سجلت الريادة فيها لمنظمة «اليونسكو» التي كرست اليوم الثالث عشر من فبراير/ شباط من كل عام يوما عالميا للراديو باعتباره اليوم الذي أطلقت فيه الأمم المتحدة أول بث إذاعي لها قبل ثمانية عقود، واختارت مرة «العلاقة بين الراديو والرياضة» موضوعا لترويج المبادرة حيث تملك «الرياضة» القدرة على توحيد عقول وقلوب الناس في كل مكان، وتعمل على تعزيز التنوع والسلام والتنمية في العالم، وقد أصبحت جزءا من الحياة اليومية لقطاعات واسعة من البشر في مختلف الأرجاء.

هذا كله جميل، لكن ماذا لو طرحت المنظمة العلاقة بين الراديو والسياسة بعد أن كفت «السياسة» في عصرنا عن أن تكون شغل الناس العاديين بخاصة في بلدان منكوبة مثلنا بطبقة من الأفاقين احتكروا لأنفسهم شغل «السياسة» وروضونا على السمع والطاعة ليخلو لهم الأمر والنهي ورسم السياسات التي يريدون من دون حسيب ولا رقيب!

وسقى الله زمانا نشأنا فيه على حب هذا الجهاز السحري الذي كان مثار عجبنا، وقد تعلمنا منه، وتثقفنا عليه، وساهم في صياغة طموحاتنا ومطامحنا في ذروة تصاعد آمال قومنا في بناء دولة مواطنين يتساوون فيها، لا رعايا تفرقهم الطائفة أو العرق أو العشيرة أو المدينة الصغيرة، زمانا حلمنا فيه أن تتكافأ الفرص أمامنا، وتتوفر الرعاية والحماية والضمانات الإنسانية والحقوق، وفي ظله أدركتنا السياسة، سمعنا منه اخبار حرب فلسطين الأولى يوم كنا سبع دول، وتعرفنا عبره الى رئيس عربي رضي أن يتنازل عن السلطة كي تتحقق الوحدة وآخرين يعضون بالنواجذ على كراسيهم كي لا تهرب منهم، وحفظنا أسماء ملوك ووزراء وشعراء، ومواقع مدن وجبال وأنهار ، وحكايات لم تروها لنا أمهاتنا، عن ساندريلا، وجزيرة الكنز، وأحدب نوتردام، كان الراديو دولتنا التي منحتنا رعايتها، ونجومها من مذيعين، ومطربين، وكتاب، ومقدمي برامج كانوا سفراء لها في أسرنا ، نعرفهم ونتتبع أخبارهم، وقد أصبحوا موضع ثقتنا، يصدقون معنا الكلام، وينقلون لنا الأحداث، ويسهرون معنا حتى ما بعد منصف الليل ثم يغفون لساعات قليلة قبل أن يلتقوا بنا في الصباح التالي.

صوت المدينة

سقى الله زمانا كان فيه هذا الساحر العجيب المثير للدهشة صوت مدينتنا التي صنعت الحضارة ووضعتنا على مدارج الحداثة، كان الممثل للطبقة المتوسطة المثقفة والمعبر عن تطلعاتها، كان يؤسس دولا، ويقيم أنظمة وحكومات، ويدربنا على الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، حتى العساكر اكتشفوا أن لا سلاح يوصلهم الى الجمهور العريض سوى الراديو، لا انقلاب من دون «بيان أول»، ولا بيان أول من دون راديو، ولكن تغير الحال عندما تنمر العساكر، وتجبر السياسيون اذ ريفوا المدينة، وأسقطوا حضارتها، وما لبثوا أن اغتصبوا «الراديو» وجعلوه صوتا واحدا أوحد لهم، حتى فقدنا ثقتنا فيه، ولم يعد له ذلك السحر الحلال والتأثير الذي ليس له حدود، وتخلى عن مكانه على الطاولة المتواضعة التي تتصدر أروقة منازلنا، ولم يبق لنا سوى أن نترجل مرغمين لنفتح الطريق امام عوالم وأكوان ومآلات جديدة، وقد آن لنا اليوم أن نعلن، وبمقادير من الأسى الممزوج بالألم، أن مبادرة «اليونسكو» الحسنة النية لن تنفع في أحياء دور الراديو، وبعثه من جديد فلكل زمان آية، وآية هذا الزمان هذا السيل المتدفق في «القرية» التي تنبأ بها ماكلوهان، والذي حمل جينات نقلة تكنولوجية لم يشهدها العالم من قبل فيما تدخل بلداننا نفقا مرعبا يقذف بها خارج التاريخ، وسقى الله أياما مضت!

 

 

 


مشاهدات 81
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2025/02/15 - 12:48 AM
آخر تحديث 2025/02/15 - 9:26 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 516 الشهر 8175 الكلي 10403546
الوقت الآن
السبت 2025/2/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير