الكراهية بين الملائكة والسياب..ما الذي يحركها؟
شوقي كريم حسن
لم تكن العلاقة خالية من أثر البيئة الثقافية والسياسية التي عاشا فيها، حيث شهدت تلك الحقبة اضطرابات اجتماعية وفكرية انعكست على الكتاب والمبدعين. السياب، بحياته التي اتسمت بالتقلبات والفقر والمرض، دائم البحث عن اعتراف واحتضان من الوسط الأدبي، بينما عاشت نازك الملائكة في عزلة اختارتها بإرادتها، تحيط نفسها بهالة من الجدية والحذر. ربما شعرت أن حضور السياب الطاغي بشخصيته الجريئة وشعره العاطفي قد يهدد مكانتها كرمز شعري يُنظر إليه بمنتهى الوقار.السياب من جهته، رغم انشغاله بالتجريب الفني والبحث عن ذاته في قصائده، لم يُخفِ ميله لاستفزاز نازك أحيانًا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا التوتر، الذي لم يصل إلى لقاء فعلي بينهما، ظل متجسدًا في كتاباتهما ومواقفهما النقدية، ليشكل جزءًا من الذاكرة الأدبية العراقية، حيث يبدو أن كلاً منهما كان يرى في الآخر خصمًا يجسد نوعًا مختلفًا من الإبداع والتوجه.الزمن، مع ذلك، منح لكل منهما مكانة مميزة. أصبحت نازك رمزًا للتأمل والصرامة الفكرية، بينما ظل السياب صدىً للمعاناة الإنسانية والبحث المستمر عن الجمال. هذا التباين بينهما، وإن كان محملاً بالضغائن الصغيرة، شكل لوحة متناقضة أغنت حركة الشعر الحر ورسخت أركانها. استمر الخلاف بين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في التأثير على سيرتهما الأدبية، لكنه لم يمنع أيًا منهما من أن يترك بصمتهما العميقة في الشعر العربي الحديث. في حين أن نازك قد حافظت على موقفها الجاد والمحافظ على مفاهيم الشعرية الكلاسيكية، كان السياب أكثر انفتاحًا على التجريب والمغامرة بالأشكال والتقنيات. هذا التباين لم يكن مجرد صراع فني، بل كان أيضًا انعكاسًا لرؤيتهما المختلفة للحياة والشعر.السياب، الذي عُرف بحساسيته العالية وارتباطه العميق بالطبيعة والإنسان، كان يكتب في سياق الأزمات الاجتماعية والإنسانية التي مر بها، بينما نازك الملائكة، التي كانت تسعى لتطوير الشعر العربي نحو شكليات جديدة وأدوات تعبيرية، كانت تشعر أن الشعر يجب أن يحمل رسالة عقلانية وتفكيرًا نقديًا. هذه النظرة العقلانية ربما جعلتها تبتعد عن أسلوب السياب الشعري الذي كان يميل إلى العاطفة والوجدانية المفرطة.ورغم هذا، فإنهما كانا جزءًا من نفس الحركة الشعرية التي غيّرت وجه الأدب العربي، حيث كانت أعمالهما تحفز الشعراء والقراء على التفكير في شكل الشعر ومحتواه. وربما، إذا تم اللقاء بينهما في يوم من الأيام، لكان النقاش بينهما قد أسفر عن تفاهم وتقدير مشترك لثراء التجربة الشعرية. في النهاية، لم يمنع التباين بين نازك والسياب من أن يُخلّد كل منهما كأحد أعمدة الشعر العربي الحديث، وأن تظل إشعاعات كلٍ منهما تضيء في سماء الأدب العربي.لم يكتب بدر شاكر السياب قصائد غزل في نازك الملائكة كما فعل مع لميعة عباس عمارة، وهذا الأمر يمكن تفسيره من خلال عدة أبعاد نفسية وعاطفية. كان للسياب علاقة مع لميعة ذات طابع عاطفي أكثر وضوحًا، على الرغم من أن هذه العلاقة لم تكن قائمة على أساس حقيقي، بل كانت بمثابة صورة رومانسية مثالية نحتها السياب في ذهنه عن لميعة، والتي كانت بمثابة “مُلهمته” في بعض قصائده الغزلية. كان السياب يبحث عن تجسيد لحبٍ مثالي لم يجد إلا في خياله، فكتب فيها قصائد تُظهر شغفًا وحساسية عاطفية عميقة، وكان يراها تجسد الحلم والأنوثة المثالية.أما مع نازك، فإن العلاقة كانت أكثر تعقيدًا وأقل وضوحًا على المستوى العاطفي. رغم أن نازك كانت واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في حياته الأدبية والشعرية، إلا أن شخصيتها الصارمة والبعيدة عن المبالغة العاطفية لم تلهم السياب بنفس الطريقة. نازك كانت تمثل له جانبًا عقلانيًا ونقديًا صارمًا، وكانت تعبيراته الشعرية تجاهها تقتصر على الإعجاب الفكري والتقدير الأدبي أكثر من كونهما على صعيد عاطفي أو غزلي.
طريقة غزلية
بالإضافة إلى ذلك، فإن نازك الملائكة كانت تضع نفسها في موقع فني رفيع، حيث كانت تسعى للحفاظ على صورة الشاعرة الجادة والمتزنة. قد تكون هذه الجدية منعت السياب من التعبير عن مشاعره بطريقة غزلية أو عاطفية كما فعل مع لميعة، فكانت المسافة الفكرية والنقدية بينهما أكبر من أن تُترجم إلى شعر غزل أو اعتراف عاطفي مباشر.إذن، لم يكن الأمر مجرد غياب إلهام عاطفي من السياب تجاه نازك، بل كان انعكاسًا لموقفه الشخصي من علاقته بها، وهي علاقة تمثل الجدل الأدبي والنقدي أكثر من الاندفاع العاطفي الذي قد يراه في قصائد الغزل.نازك الملائكة لم تكتب قصيدة نعي لبدر شاكر السياب رغم العلاقة الأدبية والفكرية المعقدة بينهما، وهذا الأمر يعكس جانبًا من تعقيد العلاقة بين الشاعرين، الذي كان مليئًا بالتوتر والتنافس، فضلاً عن التباين الكبير في شخصياتهما. نازك، التي كانت دائمًا أكثر تحفظًا وجدية في تعاملاتها، ربما شعرت بأن الكتابة عن السياب بعد وفاته قد تفتح أمامها جرحًا عميقًا في علاقة لم تكن تعرف كيف تنتهي أو كيف يمكن أن تكون في شكلها النهائي.
السياب كان يُعتبر من أكثر الشعراء الذين ابتعدوا عن التقليدية في الشعر العربي الحديث، وكان قد اعتمد على الأسلوب العاطفي والحسي في كتاباته، بينما نازك الملائكة كانت تُعتبر أكثر تحفظًا وصارمة، وتفصل بين الأدب والشخصي. قد يكون هذا التباين قد أدى إلى نوع من الحواجز غير المعلنة بينهما، حتى في لحظة وفاته.
نازك كانت ترى في السياب شاعراً مختلفًا عنها، وقد تكون رؤيتها له متأثرة بتعقيدات العلاقة الأدبية والنقدية بينهما، ما جعلها تتجنب أن تكتب له قصيدة نعي أو أي تعبير عاطفي قد يراه الآخرون أنه تنازل عن موقفها النقدي. ورغم أن هذا التصرف قد يُفهم من منظور برود أو قسوة، إلا أن هناك جانبًا آخر يمكن أن يُفسر بأنه نوع من الاحترام للمسافة الأدبية والفكرية التي كانت قد فرضتها بينهما.
ومع ذلك، كانت نازك قد كتبت عن تأثير السياب في الشعر العربي الحديث وذكرت في بعض الأحيان أهمية تجربته الأدبية، لكنها لم تقدم له نعيًا شخصيًا كما فعل آخرون.
الصمت الذي ميز نازك الملائكة تجاه وفاة بدر شاكر السياب يعكس عمق العلاقة التي نشأت بينهما على مستوى الفكر والشعر، ولكن أيضًا تعقيدها على المستوى الشخصي. كان السياب بالنسبة لها أكثر من مجرد شاعر زميل، بل كان يمثل تحديًا فكريًا ونقديًا، حيث كانت نازك ترى في تجربته الشعرية تهديدًا لرؤيتها الفنية الخاصة بالشعر. لذا، قد يكون عدم كتابة قصيدة نعي له تجسيدًا لصراعها الداخلي بين الإحساس بالخسارة الأدبية والتخلي عن الجدل الذي طالما جمع بينهما. من جهة أخرى، كان نعي السياب من قبل العديد من الشعراء والمثقفين بمثابة فرصة لتخليد تجربته الشعرية الفريدة في الأدب العربي، لكن نازك الملائكة كانت تبتعد عن هذا الدور العاطفي الذي قد يُفهم على أنه إعلان عن تسوية أو تسامح. ربما أيضًا كانت ترفض أن تضع نفسها في موقف تكون فيه مشاعرها الشخصية عرضة للتحليل، وتفضل أن تظل متمسكة بموقفها النقدي تجاه سياب الذي حمل في تجربته الشعرية بعض التمرد على ما كان قد تبنته نازك من قواعد فنية وأدبية.ورغم ذلك، فقد كان الفضاء الأدبي يعج بذكريات السياب وأثره، وكان العديد من الشعراء في العراق والعالم العربي يتعاملون مع رحيله كخسارة جماعية للقصيدة الحديثة. لكن نازك، التي كانت دائمًا تضع الشعر في مصاف أعلى من العلاقات الشخصية، لم تكن تجد في هذه اللحظات مناسبة لتكريم سياب بشكل يتماشى مع أبعادها النقدية والفكرية.حتى وإن لم تكتب نازك قصيدة نعي للسياب، فإن وفاته تركت أثرًا في حياتها الأدبية، وربما كان ذلك سببًا إضافيًا في صمتها، الذي ربما يحمل بين طياته نوعًا من الحزن الشخصي الذي لم ترده أن يتحول إلى مجرد لفتة عامة، بل بقي غامضًا ومخفى في ثنايا سردها الفكري.
ردود فعل بدر شاكر السياب تجاه تجربة نازك الملائكة كانت معقدة ومشحونة بالكثير من التوترات الأدبية والنقدية. في البداية، كان السياب يعترف بموهبة نازك وبمكانتها كأحد الأسماء البارزة في حركة الشعر الحر، لكنه كان في الوقت ذاته يختلف معها حول بعض القضايا الأدبية.السياب كان يرى في نازك شخصية محورية في تطوير الشعر الحر، لكنه لم يوافق على كل ما تطرحه. كان في بعض الأحيان يشكك في توجهاتها الشعرية، ويرى أن شعرها كان يميل إلى الجدية والصرامة بشكل قد يفقده بعض العاطفة التي كانت جزءًا أساسيًا من شعره. على سبيل المثال، كانت نازك تحاول الابتعاد عن الانغماس الكامل في العواطف الشخصية، بينما كان السياب يتسم بشعر غارق في العاطفة، مما جعله يختلف مع نازك في كيفية التعبير عن الألم والهموم الإنسانية.في بعض الأحيان، كان السياب يتحدث عن نازك بطريقة توحي بالاحترام، لكنه كان يعبر عن تذمره من بعض توجهاتها الأدبية التي كانت تُعتبر أكثر تقليدية أو محافظة في بعض الأحيان. كان يعتقد أن نازك تتبنى قواعد شعرية صارمة قد تعيق التجديد الشعري الذي كان يسعى إليه هو بنفسه. ومع ذلك، كانت هناك لحظات من التقدير المتبادل بينهما، خاصة في ظل التحدي الذي كان يشكله كل واحد منهما للآخر، حيث كان السياب يرى في نازك نوعًا من “النموذج” الذي يتحدى شعره ويحفزه على التجديد.يمكن القول إن ردود فعل السياب تجاه نازك كانت تتراوح بين التقدير النقدي والاحترام لأدائها الشعري من جهة، وبين التحدي والمنافسة من جهة أخرى. هذا التوتر الأدبي بينهما كان جزءًا من التفاعل الإبداعي الذي أثمر عن تطور حركة الشعر الحر في العراق وفي العالم العربي بشكل عام.
التفاعلات بين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة كانت تُظهر تناقضات بين الاحترام والمنافسة في آن واحد. بينما كان السياب يحترم نازك كأحد رواد الشعر الحر، إلا أنه كان في الوقت نفسه يعبر عن شعور بالتمرد على بعض مواقفها الشعرية. كان يرى أن نازك تلتزم بقواعد أدبية قد تكون أكثر تقليدية من تلك التي يتبناها، حيث كان يتخذ من شعره مرجعًا للتحرر والانفتاح على أساليب جديدة وجريئة في التعبير. ربما كان يشعر أن نازك لم تكن تجاربه الشعرية تُقدَّر بشكل كافٍ داخل إطار الأدب العربي الحديث الذي كان يتوق إلى التجديد والتغيير. السياب، بطبيعته المتمردة، كان يرغب في تحطيم القوالب الأدبية القديمة وفتح المجال أمام أفق شعري جديد، بينما كانت نازك تحمل رؤيتها الخاصة للشعر الحر الذي كان، في نظرها، بمثابة تحول عن الشعر التقليدي لكن دون الابتعاد عن بعض الأسس الشعرية. هذا التباين في الرؤى ربما أدى إلى التوتر بينهما، رغم أن كليهما كان يسعى لنفس الهدف: تجديد الشعر العربي.بالإضافة إلى هذا، كان السياب يقدر التأثير الأدبي الذي كانت تملكه نازك في الساحة الشعرية، خصوصًا في المراحل المبكرة التي ساهمت فيها بشكل كبير في تأسيس الشعر الحر. إلا أن تأثير هذا التقدير لم يكن يتجاوز حدود المواجهة الأدبية، حيث كان يحرص على أن يكون له أسلوبه الخاص الذي يبتعد عن التقيد بما تراه نازك مثاليًا.في مجمل ردود فعله تجاه تجربة نازك، لم يكن السياب يملك مشاعر سلبية شخصية تجاهها، بل كان يرى في تحديها للأشكال الأدبية التقليدية حافزًا له للتمرد والابتكار. في الوقت ذاته، كان لديه اعتراضات على بعض توجهاتها التي كانت تقترب أكثر من التجريب الملتزم، بينما كان هو يبحث عن تجديد لا يعترف بأي حدود أو قيود.وفي النهاية، على الرغم من التوترات والنقد المتبادل، ظلت العلاقة بين السياب ونازك تمثل صورة حية لصراع الإبداع في الأدب العربي الحديث. ورغم غياب التفاهم الكامل بينهما، إلا أن كلاً منهما كان يمثل جانبًا حيويًا في تطور الشعر العربي، حيث ظلت تجربتهما مصدر إلهام ونقاش مستمر حتى بعد وفاتهما.!!