ساحة الميدان..بين عبق التاريخ وتحديات الحاضر
وليد الحيالي
مقدمة
في قلب بغداد، حيث تتعانق الأزمنة، وتفوح روائح التاريخ من كل زاوية، تقف ساحة الميدان كشاهد على تقلبات الزمن، وكمسرح لصراعات وأحلام أبناء العراق. ليست الميدان مجرد ساحة، بل هي مركز تاريخي واجتماعي وثقافي، لعب دورًا محوريًا في حياة العاصمة، وشكلت محورًا للحراك الشعبي والنشاط التجاري والثقافي على مدى قرون.
ساحة الميدان في الذاكرة التاريخية
نشأت ساحة الميدان في العصر العثماني، واتخذت موقعًا استراتيجيًا يربط بين باب المعظم والكرخ من جهة، والرصافة القديمة من جهة أخرى. كانت محاذية للثكنات العسكرية، وإلى جوارها أقيمت المساجد، والمدارس الدينية، والخانات، والمقاهي الشعبية. ومن أبرز معالمها جامع الميدان الذي يعدّ من أقدم جوامع بغداد، ومقاهيها التي احتضنت المثقفين والشعراء والحرفيين.ارتبط اسم الميدان بالحراك الشعبي، وكانت ملتقى للفئات الاجتماعية المختلفة. شهدت مظاهرات كبرى في العهد الملكي، وتجمعت فيها طلائع الثوار، كما كانت نقطة انطلاق للعديد من التظاهرات التي شكلت مفاصل مهمة في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي.
الميدان والهوية البغدادية
الميدان ليست ساحة فقط، بل ذاكرة حية للهوية البغدادية. فيها اختلطت الأديان والمذاهب والثقافات، وفي أزقتها تأسست المكتبات ودور الطباعة القديمة، وازدهرت الصناعات اليدوية من الأحذية إلى الصياغة إلى الخراطة. وتجاورت الحوانيت الصغيرة مع المدارس والزوايا الدينية، مما أضفى عليها طابعًا حضريًا فريدًا، قلّما تجده في مدن أخرى.
تراجع وتهميش
رغم ما تحمله من رمزية وطنية وحضارية، تعاني ساحة الميدان اليوم من الإهمال الممنهج والتراجع العمراني والخدمي. فقد اجتثّت العديد من معالمها، وتحولت بعض مبانيها التاريخية إلى أنقاض. طُمرت الذاكرة لصالح مشاريع تجارية عشوائية لا تراعي البعد التاريخي، وغابت عنها أي خطة صيانة أو ترميم ممنهجة.
إن انحسار دور الميدان كمركز للحياة العامة، وحلول الفوضى المرورية والوظيفية، دليل على فقدان الدولة العراقية لدورها في صيانة الإرث الحضاري، وترك المدينة التاريخية تتآكل أمام أعين أهلها.
لحماية ساحة الميدان من الضياع الكامل، فإن الأمر يتطلب تدخلًا عاجلًا على مستويات متعددة:
1.إعلان الميدان منطقة تراث حضري محمية بموجب قانون الآثار والتراث العراقي.
2.إجراء مسح توثيقي شامل للمعالم المعمارية والتاريخية فيها، والاستعانة بخبراء التراث الحضري في ترميمها.
3.إعادة الوظيفة الاجتماعية والثقافية للميدان، عبر إنشاء مراكز ثقافية، ومتاحف صغيرة، وتشجيع الحرف التقليدية.
4.تحسين البنية التحتية والخدمات العامة، وتنظيم المرور والمرافق بطريقة تحترم السياق التاريخي للساحة.
5.إشراك المجتمع المحلي في عملية إعادة التأهيل، باعتباره الحارس الطبيعي لذاكرة المكان.
⸻
خاتمة
ساحة الميدان ليست مجرد فسحة ترابية في قلب العاصمة، بل هي مرآة لهوية بغداد، ومتحف مفتوح لذاكرتنا الجمعية. إن إنقاذها واجب وطني وتاريخي، يتطلب إرادة سياسية وثقافية جادة، تدرك أن لا مستقبل لبلد يُهمل ماضيه.إننا، ونحن نكتب عن الميدان، لا نوثق فقط، بل نطلق صرخة ونداءً لكل الغيورين على العراق: أنقذوا ذاكرة بغداد… أنقذوا الميدان.