الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المغزى من تكريم المفكر عبدالحسين شعبان

بواسطة azzaman

المغزى من تكريم المفكر عبدالحسين شعبان

شيرزاد النجار

 

لم يكن صدفة ولم يأت من فراغ تكريم الصديق المفكر والأكاديمي د. عبد الحسين شعبان ، بل كان نتيجة لمسيرة طويلة له ابتدأ من مدينته التاريخية النجف، ثم انتقل إلى بغداد حيث الدراسة الجامعية وتعارفنا فيها قبل أكثر من نصف قرن، ومنها إلى العالم العربي وأصقاع المعمورة.

 ومن خلال نشاطاته السياسية في الجامعة كانت تكبر لديه موهبة “الشغف بالتفكير” الذي كان يتّسم بمناقشاته الحيوية، وهذا الشغف أدى به ، كما تؤكد الدكتورة الشاعرة سعاد الصباح، “ إلى تحويل مشكلات الإنسان من حقل الاحتمال والحدث والظن إلى المجال الذهني الواقعي المرتكز على معطيات منطقية”. جاء ذلك في كلمتها بمناسبة يوم الوفاء لعبد الحسين شعبان عند تكريمه في الكويت.

 ثم أقيم له احتفال تكريمي كبير في كردستان العراق وعاصمتها أربيل بحضور نخبة كردية وعربية وعراقية متميّزة، كما منحه الأستاذ سعد البزاز، “رئيس مجموعة الإعلام المستقل”، قلادة الابداع تقديرًا لجهوده الفكرية في خدمة الثقافة العراقية وتأسيس منهج يتسم بالعمق والاعتدال ، وتقديرًا لمجهوداته البحثية واسهاماته في تنشيط الذاكرة العربية والعراقية، ولاستمراره في انجازه الثقافي قرابة نصف قرن من تاريخ العراق الحديث.

إن مساهمات د. شعبان غزيرة ومتنوعة (حوالي 80 كتاباً)، ولم تقتصر على حقل أو اختصاص واحد، بل شملت مجالات الفكر القانوني والسياسي والاجتماعي والتاريخي والثقافي والنقد الأدبي، وما يزال مشروعه مثل أي مشروع فكري آخر مفتوحًا وقابلًا للتطور والنمو. وعبارة “المشروع غير المكتمل” تعكس الطموح المستمر لـ د. شعبان في البحث والتفكير والنقد وإعادة القراءة، ناهيك عن النقد الذاتي، كما يؤكد د. شعبان ذلك بقوله: نحن نعيش في “ الحقبة المُظلمة “، وهذه الحقبة هي عصر من عصور التاريخ بسقفٍ كئيب يعكس أوضاع الإذلال الديني والسياسي والأخلاقي.

أمام هذه الصورة القاتمة، فإننا بحاجة إلى الانفتاح والاستعداد الفكري لتفهم واستيعاب وتقبّل ما يجري الآن بعد الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذا يعني أنه علينا أن نفهم “ روح العصر”، واختيار الطريق الصحيح للتفكير والمتمثل بالعقلانية والتحليل على أساس التساؤل الدائم: هل هناك خطر أكبر من خطر الفكر؟

ومن هنا، إذن، يحاول د. شعبان ككاتب ناقد ومُنظّر ومُحلل في كتاباته فهم الواقع، ويخوض جدالاً فلسفياً - دينياً بين الدين والعقل في كتابه المهم ( دين العقل... وفقه الواقع، 2021) مقتفيًا أثر الفيلسوف إمانويل كانت حول الدين في حدود العقل، فالعقل والعقيدة هما من أشكال المعرفة، يتكاملان تدريجياً للوصول إلى الوحدة. وهذا لا يتم إلا بعد اكتشاف القوة أو القِوى الخفية التي تحدد كيف نرى العالم ونتفاعل معه. إن هذه القوة ليست سوى قوة العقل المذهلة.في تكريم د. شعبان ثمة معايير جوهرية توقّف عندها المحتفون به، ويمكن تلخيصها كالآتي:

توفّر مواصفات المثقف العضوي المهموم بآلام شعبه، حسب مواصفات المفكر الإيطالي اليساري أنطونيو غرامشي  .

•  العدل وهو ما يعبّر عنه في أبحاثه القانونية والسياسية ومجمل مواقفه، فقد تناول د. شعبان في كتبه ودراساته مسألة الدولة وإشكالياتها، حيث كانت الدولة الموضوع الجوهري في علم السياسة التقليدي ولذلك عُرِف علم السياسة بكونه علم الدولة، ولكن هذا التعريف الكلاسيكي لم يصمد أمام سرعة وعمق التطورات المحيطة بالظواهر السياسية بحيث توسع حقل علم السياسة مما أدى إلى إبتكار تحديد آخر لـ علم السياسة على أساس أن هذا العلم هو علم السلطة، وهو ما توقّف عنده شعبان بعمق وحلّل السلطة من زاوية موقفها من العدل لجهة إعلاء دور الفرد و حريته وكرامته والحريات العامة، دون نسيان جانبها الاجتماعي.

الشغف بالتفكير الذي بدأ من طفولته، حيث يقول “بدأ وعيي الأول ينفتح في أجواء العائلة ومحيطها، وكانت هذه الأجواء شيوعية ويسارية وثقافية وأدبية... لقد عشت في بيت، وقُلْ بيوت من الكتب والمجلات والصحف، وكل ما حولي كان له علاقة بالكتاب موضوعاته ومحتواه”.  وإلى جانب ذلك كان القرآن الكريم في بيته يتلوه صباح كل يوم والده الحاج عزيز شعبان.

ناقد مجدد

 يقول شعبان “لم يكن أحد منّا قد قرأ حينها الماركسية لكي يقول إنه اهتدى إليها، ثمة إحساس سليقي وجداني بالظلم من جهة، وبالرغبة في تحقيق العدالة والمساواة والرفاه والتطلّع إلى العصرنة والحداثة من جهة أخرى، هو ما دفعنا للانخراط في العمل السياسي الماركسي”، وإذا كان قد شبّ يساريًا، إلّا أنه ظلّ متصالحًا مع بيئته الدينية، على خلاف الآخرين.

دفاعه عن القيم: لعلّ المواقف التي يتخذها الإنسان متعددة ومن أهمها الموقف الثوري مقابل الموقف النفعي. وقد حدد تشارلز بيرس، أحد مؤسسي العقلانية إلى جانب وليم جيمس ثلاث نماذج من العقليات: عقلية التاجر، عقلية الفنان، عقلية رجل العلم. شعبان هو رجل العلم يريد أن يكشف قواعد سير الطبيعة وحركتها، ولكنه في نفس الوقت هو رجل التغيير، وهذا هو الموقف الثوري الذي ينظر للحياة كونها رسالة تتضمن تثقيف الإنسان بإنسانيته على العكس من الموقف التوتاليتاري الذي يهدف، كما تؤكد الفيلسوفة هانا آرنت  إلى نزع إنسانية الإنسان.

البحث عن الحقيقة خارج إطار اليقينيات السرمدية والحتميات التاريخية وبعيداً عن التهويمات العقائدية، فإن شعبان مال إلى التجديد الفكري. وعلى الرغم من نشأته الماركسية، إلّا أنه لم يتجمّد عندها أو يتقوقع فيها، بل قدّم قراءات نقدية لها، مشيرًا إلى أن تعاليم ماركس قد تصلح لعصره، وإن بعضها لم يكن صحيحًا، وبعضها الآخر تخطاها الزمان، وتناول ذلك بعمق في كتابه “تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف» (2009).

مشروع لم يُنجَز بَعدُ

يقدّم د. شعبان: في كتاباته مشروعاً فكرياً ولكنه مشروع غير مكتمل ويحتاج إلى إستمرارية متفاعلة مع الزمان والمكان لإنجازه، وإنّ عدم اكتماله لا يعني أنّه ناقص كما قد يتصوّر البعض. د. شعبان لم يُشر إلى اكتمال مشروعه، بل عمل على فتح أبواب الحوار والسجال بشأنه. إن عدم الاكتمال ليس عيباً، وإنّما يعني أنّ مشروعه ما زال محافظاً على حيويته وطاقته، ولم يتوقف ويستنفذ، لذا يكتب د. شعبان “ ...إنني أعتقد أن مشروعاً كبيراً كهذا يحتاج إلى جهد جماعي ومثابرة حثيثة وتراكم طويل الأمد وشجاعة إستثنائية لتحقيقه، مثلما يتطلب فتح قنوات متعددة ومتنوعة تصب فيه وتصل إلى جوهره

وفي هذا المشروع يتكلم د. شعبان عن دين العقل وهدفه هو إصلاح المجال الديني بإضفاء صفة العقل والعقلانية عليه، وخصوصاً لا يوجد فهم واحد موحد للدين، فإننا إذن بحاجة للعقلانية لكي يصبح الدين دين المعرفة والعقل لا دين الجهل والخرافة.

مشروع د. شعبان يمكن تصنيفه كمشروع فكري تنويري ضمن حركة الحداثة التي هي مشروع لم يُنجز بَعدُ، حسب رؤية الفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس، وفي هذا المشروع التنويري إستخدم د. شعبان منهجاً نقدياً يماثل منهج ديكارت، لتأسيس دعائم الشك الذي سيصل إلى اليقين، باستخدام ملكاتنا العقلية.

لقد إستند د. شعبان على حقائق مهمة في مشروعه التنويري، وهذه (الحقائق) تدور حول سلبيات رجال الحكم والسياسة وخشيتهم في محاولة توعية الناس واستبدال المفاهيم القديمة البالية بمفاهيم وسلوكيات واقعية تنسجم مع التحولات الكبرى في العالم والقائمة على الحق والعطاء والحرية، وهذا يخلق بيئة مضادة وكارهة للأفكار التنويرية.

إن فلسفة التنوير الذي يسعى د. شعبان إلى تحقيقها ترتكز على فكرتين أساسيتين هما:

فكرة التقدم المرتبطة بحركة التأريخ الديناميكية والتي تسعى إلى تحسين مستمر لأوضاع الإنسان ومنها تعزيز القيم الأخلاقية

فكرة الطبيعة الإنسانية كطبيعة صالحة جيدة

علم الإنسان

انشغل د. شعبان في كل أعماله بالبحث عن المسائل التي تهم الإنسان أو علم الإنسان حسب صياغة ديفيد هيوم. وفي مشروعه الفكري التنويري، فإن هدفه هو وضع أسس فكرية أخلاقية تنويرية لمجتمع جديد تتجلى فيه مبادئ العدالة والمساوة وحقوق الإنسان.

وهكذا حين يُكّرَم المفكر شعبان استناداً على تراكماته الفكرية وتجاربه وإبداعاته الواقعية، إنما هو تكريم للقيم التي عمل من أجلها كسيرورة ناجعة فاعلة مرتبطة عضوياً بنجاعة الحياة الفكرية وتنظيراتها.

هنيئاً لصديقنا صاحب التنوير عبدالحسين شعبان وإلى مزيد من الإبداع.


مشاهدات 69
أضيف 2025/02/01 - 12:20 AM
آخر تحديث 2025/02/01 - 12:33 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 274 الشهر 274 الكلي 10295645
الوقت الآن
السبت 2025/2/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير