لماذا تهاوت إستراتيجية الحرب الإيرانية الرمادية الهجينة؟
منقذ داغر
4.هل ستستعيد إيران نفوذها الإقليمي؟
قامت (إسرائيل) خلال الأعوام 2018-2022 بما مجموعه 145 هجوم جوي على شبكات إيران 61 بالمئة منها ضد سوريا وحزب الله بحسب أرقام معهد دراسات الأمن الوطني. وفي تقرير آخر فقد هاجمت (إسرائيل) 200 هدفاً داخل سوريا خلال السنوات 2011-2017 بضمنها عشرات الأهداف المرتبطة بفيلق القدس الإيراني بدون أي رد فعال من قبل إيران أو حلفائها. غير أن التحدي الأكبر للصبر الإستراتيجي الإيراني جاء في يوم 1 نيسان 2024 حين دمرت طائرات F 35 الإسرائيلية مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت عدداً من قادة الحرس الثوري بضمنهم سيد رضا موسوي والذي يعد الجنرال الإيراني الأعلى رتبةً ومسؤوليةً في سوريا. لقد مثل هذا الهجوم غارة معلنة-وليست خفية كالعادة- على الأرض الإيرانية باعتبار أن القنصلية الإيرانية هي جزء من السيادة الإيرانية.
موجة غضب
كما أنها قتلت عدداً من الإيرانيين بضمنهم قادة في الحرس الثوري. لقد أدى ذلك الى موجة غضب إيرانية بخاصة بين صقور إيران جعلت المرشد الأعلى (السيد الخامنئي) يصرح علناً في عيد الفطر بأن على إسرائيل أن تستعد لعقاب إيراني شديد. هذا الهجوم وضع إيران أذاً في مأزق كبير وأجبرها على الخروج عن النص التقليدي فضربت سياسة الصبر الأستراتيجي وردت في يوم 13 نيسان رداً أقل ما يقال عنه أنه كشف عورة الحرب الرمادية. لقد كان الرد شكلياً من خلال صواريخ وطائرات مسيرة هي ليست أحدث ما لدى إيران، حتى تحول الرد الإيراني من شديد الى رد (عتب). رافق ذلك تنسيق إيراني عالي المستوى مع السفارة السويسرية في طهران والتي تمثل المصالح الغربية في طهران بأعطائها كل تفاصيل الهجوم الإيراني واتجاهاته وتوقيتاته في تصرف أرسل رسالة واضحة أننا لا نريد التصعيد، وهو ما قرأه الإسرائيليون بأنه رسالة ضعف وعدم رغبة بالقتال واضحة. هذا ما شجع الإسرائيليين على تسليط مزيد من الضغوط والإستفزازات (الإستراتيجية) فقاموا بأغتيال هنية الذي كان تحت حماية إيران في طهران ومع ذلك لم يأتِ الرد الإيراني! وهذا ما عزز الإستنتاج الأمريكي-الإسرائيلي عن حدود إيران في الإنخراط بمواجهة عسكرية. ثم جاءت الحرب على غزة التي نأت إيران بنفسها عن التدخل المباشر فيها وضربت مبدأ وحدة الساحات الذي طالما تبنته هي وحلفاؤها لتزيد التأكيد أن إيران غير مستعدة للإنخراط بمواجهة بخاصة وأن (إسرائيل) ومن ورائها أمريكا رفعت سقف توقع التهديدات لتشمل درة تاج الاستراتيجية الإيرانية وهو البرنامج النووي الذي بات مهدداً بالتدمير بهجوم إسرائيلي-أمريكي كما أشارت لذلك التسريبات الإعلامية المقصودة. وجرى مزيد من الإستفزاز الإستراتيجي بأغتيال الشيخ نصر الله وقيادات مهمة في حماس وحزب الله وإيرانية ايضاً، فضلاً عن تدمير جنوب لبنان ومعاقل حزب الله وبدون أي تحرك إيراني، سوى بالإعلام!! أن من المعلوم أن حزب الله اللبناني الذي أسسته إيران في بداية ثمانينات القرن الماضي واستثمرت فيه مليارات الدولارات وكثير من الجهود والموارد كان الألماسة الكبرى في شبكات الفصائل المدعومة إيرانياً. ولم يقتصر دوره على الدور العسكري فقط، بل أنخرط في سياسة لبنان بل وحتى العراق بحيث بات اللاعب السياسي الأهم في لبنان والمهم في العراق. وقد كان كثير من المراقبين يتوقعون أنه إذا كانت إيران قد اكتفت بالدعم الدبلوماسي والإعلامي لغزة فأنها ستنتقل لمرحلة الدعم العسكري حينما يتم تهديد جوهرتها اللبنانية. لكن ذلك لم يحصل سواء عندما اغتيل قائد الحزب أو تم تفجير (بيجرات) الحزب،أو عندما تم تدمير جنوب لبنان والضاحية في بيروت وقتل آلاف المقاتلين والمدنيين من جمهور الحزب أو من اللبنانيين العاديين.
كل هذه الأحداث لم تكشف فقط محدودية القدرة الإيرانية على المواجهة مع أمريكا ووكيلتها في المنطقة، بل ضربت مصداقية وقدرة إيران أمام حلفائها وهو ما تأكد بمحدودية وعدم فاعلية إيران في الدفاع عن نظام الأسد الذي أنهار ليزيد من متاعب إيران الاستراتيجية. لقد خسرت إيران جسرها البري الممتد من طهران للبحر المتوسط. كما خسرت كل نقاط تماسها المباشر مع (إسرائيل) هذا فضلاً عن خسارة كثير من الدماء ومليارات الأموال التي استثمرتها طوال العقود الأربعة الماضية دون أن تقوم بأي رد أو عقاب إستراتيجي كما كان الأصدقاء قبل الأعداء يعتقدون ذلك.
حرب رمادية
وظهرت إيران بمظهر من يكترث فقط لأمنها الوطني وبرنامجها النووي دون أي اعتبار لحلفائها الذين مثلوا رأس الرمح في حربها الرمادية الهجينة وغير التقليدية طوال العقود الأربعة الماضية. باختصار فقد انهارت كل إستراتيجية الحرب الرمادية وبات يتوجب الآن التفكير في كيفية ترميمها أو التخطيط لإستراتيجية مواجهة جديدة.
لكن على الرغم من هذه الهزيمة فأن من يعرف النظام الإيراني يعلم أنه ليس من السهل، بل وليس من الوارد في قاموس النظم الثورية عموماً ونظام طهران تحديداً الإقرار بالخسارة. ومع استمرار الاحتلال الصهيوني وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني، ومع استمرار التوترات الطائفية في المنطقة، وهيمنة محور أمريكا-إسرائيل على المشهد، فأن من المتوقع أن تستمر علامة «المقاومة» و «حماية الشيعة» وشعاراتها بالصمود لأنها توفر زاداً فكرياً وعقائدياً يمكن ترجمته الى موارد بشرية لا نهائية مستعدة للانخراط في هذا المشروع. ويمكن أن يزداد هذا المشروع جاذبيةً مع انضمام مزيد من الدول العربية للاتفاقات الإبراهيمية التي قد تفرط بكثير من حقوق الفلسطينيين وأو أتباع سياسة طائفية تقصي الشيعة في سوريا ولبنان. لذا فأن من المتوقع أن تنكفأ إيران على الداخل كما فعلت بعد انتهاء حربها مع العراق لترمم ما يمكن ترميمه داخلياً بخاصة خلال السنوات الأربعة القادمة التي يمكن أن تشهد عاصفة ترامبية ضد إيران. لكن هذا الإنكفاء الإيراني لا يعني التوقف عن إعادة بناء ما تهدّم بخاصة على صعيد شبكات الوكالة الإيرانية وبخاصة حزب الله.
كما أن من المتوقع أن تستمر إيران بلعب دور مؤثر في سوريا من خلال الفصائل غير المنضوية تحت عباءة هيئة تحرير الشام والمعادية لها. أن من المهم لإيران أن تفشل التجربة السورية تماماً كما كان مهماً لها فشل التجربة الأمريكية في العراق. كما أن من المهم لها أن ترتكب دمشق وبيروت ومن يساندهما سياسة طائفية ضد الشيعة.أما بخصوص الحوثيين فسيستمر الدعم الإيراني السياسي والإعلامي في حين يتقلص كثيراً أو ينتهي الدعم العسكري لهم. وسيترك الحوثيون لمواجهة مصيرهم أما من خلال القتال أو التوصل لإتفاق شامل يضمن عدم هيمنة الحوثيين على القرار في صنعاء. ومع عودة ترامب فأن من المتوقع وضع مزيد من الضغوط على الحوثيين من خلال إعادتهم لقوائم الإرهاب الأمريكية.