لماذا تهاوت إستراتيجية الحرب الإيرانية الرمادية الهجينة ؟
منقذ داغر
2. كيف حاكت إيران سجادة حريرية حديدية؟
عكف حائك السجاد الإيراني طوال العقود الأربعة الماضية أذاً على تنويع الخيوط والألوان التي نسج منها سجادته حروبه الرمادية اللا منتهية والتي امتدت من البحر الأحمر والبحر العربي جنوباً وصولاً الى شواطئ البحر المتوسط شمالاً. تمثلت هذه الخيوط المنسوجة بدقة مزيجاً متكاملاً من:
1. حروب الإنابة. إذ لم تدخل إيران في أي حرب شاملة منذ انتهاء حربها مع العراق مع أنها ظلت تعاني من حالة توتر مستمرة مع محيطها الإقليمي والعالمي. مع ذلك فأنها كانت منخرطة بشكل غير مباشر في أفغانستان وأرمينيا والعراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين وحتى الخليج العربي والبحر الأحمر. تم ذلك كله بأقل قدر من الدماء الإيرانية وبأكبر قدر من النفوذ الأستراتيجي في كل تلك المناطق.
لم تعرّض إيران نفسها لخطر المواجهة الحربية المباشرة لأنها لم تكن هي التي تقاتل بل انخرطت من خلال شبكات الوكلاء من الميليشيات المحلية التي أنشأتها ومولتها وسلحتها ودربتها. وفي كل هذه المناطق جرى تنسيق عالي المستوى لضمان مصالح إيران الاستراتيجية ونفوذها كلاعب إقليمي أول لا يمكن تجنبه إذا ما أريد حل أي من الإشكالات في تلك المناطق.
2. الغموض الواضح. قد يبدو غريباً استخدام هذا المصطلح المتناقض ضمنياً لكنه يصف الواقع فعلياً.
سلاح ايراني
ففي كل نزاعاتها الداخلية والخارجية حرصت إيران على إشاعة جو من الغموض بخصوص تدخلاتها وأهدافها مما يسمح لها التنصل عن أية مسؤولية مباشرة عما يحصل. لكنها حرصت في نفس الوقت على أن تترك بصماتها واضحة لأعدائها في رسالة تقول «لو ألعب لو أخرب الملعب». خذ مثلاً موضوع حزب الله في لبنان أو الميليشيات في العراق أو الحوثيين في اليمن وحتى موضوع السلاح الإيراني النووي. فقد حرصت إيران دوماً على التصريح بأن الحوثيين أو حزب الله أو الميليشيات العراقية يتخذون قرارهم بأنفسهم بما يخدم مصالحهم ودون توجيه إيراني، في حين أن القاصي والداني يعلم أن من يريد إتمام مراسم (الزيارة) وينال (مراده) لا بد أن ينال بركات قم وطهران. وفي الموضوع النووي فأن هناك غموض يلف ملفها النووي الذي لا يعلم أحد على وجه اليقين أين وصل على الرغم من أن الجميع متيقنين بوجود نوايا لصنع قنبلة نووية.
3. المهارشة Facing and Pacing . تشير المهارشة في العلم العسكري إلى الاشتباكات الصغيرة والخفيفة والمتوالية مع القوات المعادية. هذه المهارشة عادةً تحدث قبل المعركة الكبيرة ويمكن أن تشمل تبادل طلقات نارية، مناوشات صغيرة، والاشتباكات التي تهدف إلى استنزاف الخصم أو استكشاف قوة ونوايا العدو. ففي كل مرة تقوم ايران من خلال وكلائها غالباً باختبار حدود صبر وردود فعل أعدائها من خلال مناوشات بسيطة (كالتعرض للقواعد الأمريكية أو اختطاف سفينة في البحر أو تدميرها...الخ).
هذه العمليات لا ترقى لمستوى الانتهاكات الخطيرة التي تستدعي حرباً شاملة لكنها تظل تأكل من قوة العدو وتنهكه وتجعله حذراً باستمرار. أنها تضع قوات العدو في حالة مواجهة منخفضة القوة لكنها مستمرة.
كما أنها تتيح لأيران في كل مرة التراجع عن التصعيد وتنفيس الضغط حينما ترى التهديد المعادي بات جدياً.
4. تعدد الساحات ووحدتها. لكي يمكنها لعب دور أقليمي وليس محلي فقط، ولكي يمكنها أن تربك حسابات الدول الكبرى كأمريكا والتي لها مصالح في أكثر من دولة وساحة في المنطقة فقد توسعت إيران في شبكة نفوذها لتشمل ساحات مختلفة وممتدة لكنها موحدة في هدفها والأشراف عليها. هكذا بات على أمريكا أن تفكر أنها اذا أرادت مهاجمة إيران فأن كل المنطقة ستشتعل مما يهدد بحرب إقليمية مكلفة للغاية. هذا الأنموذج جعل إيران تبدو كأخطبوط مخيف ذو رأس مفكر ونووي وأذرع قوية مما خلق حالة ردع قوية تجاه أي تهديد أقليمي أو دولي يمكن أن يواجهها.
عقيدة دينية
5. المزيج العقائدي. لم تبنِ إيران قوتها العسكرية داخل وخارج إيران على وفق عقيدة عسكرية وطنية وإنما عقيدة دينية عابرة للحدود. وهذا ما أمّن للأخطبوط الإيراني قوة عقائدية أنفجارية. فهذا الأخطبوط لا يدافع عن مصالح إيران فقط ولا حتى عن الإيرانيين حسب، وإنما كل الشيعة والمستضعفين والمظلومين في المنطقة. بالتالي فإن هناك مبرر للقتال خارج الأوطان وليس هناك تردد إزاء ألا تكون القيادة العليا للمحور غير عراقية أو غير لبــــــــــنانية أو غير يمنية. أنها قيادة دينية تســــــــــــتند الى مبدأ ولاية الفقيه.
وفي الوقت الذي يمكن لقوى هذا المحور أن تلعب دوراً سياسياً داخل أوطانها فأن عليها لعب دور عقائدي أهم خارج تلك الأوطان. هذا لمزج بين العقيدة والسياسة وحتى الاقتصاد منح السجادة الإيرانية مرونة كبرى في تبادل الأدوار جغرافياً ووظيفياً. فأتباع محورها يكونون تارةًً ثوريين،وتارةً أخرى سياسيين، وتارةً ثالثة اقتصاديين، وتارةً رابعة رجال دين! حريرية الملمس حديدية القوام،هذا ما باتت عليه تلك السجادة الأقليمية الأستراتيجية التي حاكها النسّاج الأيراني طوال هذه العقود الأربعة المنصرمة والتي أرّقت الأميركان في كيفية التعامل معها الى أن وصلوا لفكرة أستراتيجية مفادها أنه لا يمكنك مواجهة الجيوش والشبكات غيلر النـــظامية بجيوش وقوات نظامية. وكان هذا هو المفتاح للشروع بتمزيق السجادة الإيرانية كما سيتضح لاحقاً.