الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في رواية روبيرتو بولانيو التشيلي «2666» أو مآتم العولمة

بواسطة azzaman

في رواية روبيرتو بولانيو التشيلي «2666» أو مآتم العولمة

تعقّب حركة التعولم وثناياها المظلمة

هديل عادل كمال

 

تعرض الرواية أحداث تنصيب الاشتراكي سلفادور الليندي رئيسًا لتشيلي وقت كان المجتمع التشيلي محافظًا وتقليديًا، ويعرض روبرتو بولانيو في هذه الرواية حال المجتمع من خلال ذكريات القس والناقد الأدبي والشاعر المتواضع سابستيان أوروتيا لاكروا وهو الشخصية الأساسية في الرواية؛ وتعرض الرواية كيف أصبحت الآمال معقودة على هذا الرئيس الجديد نحو التغيير والحداثة والديمقراطية، الا أن الأمور تنقلب بحدوث الانقلاب العسكري بقيادة بينوشيه. ترجمت تلك الرواية إلى العديد من اللغات بالإضافة إلى العربية أما روبيرتو بولانيو فهو شاعر وروائي تشيلي مشهور، ولد عام 1953، وعاش في المكسيك فترة من حياته تلك الفترة التي بدأ فيها كتاباته الأدبية، ثم عاد إلى تشيلي ليساند صعود الاشتراكي سلفادور الليندي للسلطة، وبعد الانقلاب العسكري عام 1973 اعتقل بولانيو ثم نجح في الهرب عائدًا إلى المكسيك ومنع بعدها من دخول تشيلي مرة أخرى، فهاجر إلى إسبانيا واستقر هناك وتوفي فيها عام 2003. لبولانيو دوواين شعرية وقصص قصيرة منها ما يحكي عن تجاربه الذاتية، بالإضافة إلى عدد من الروايات الناجحة والتي نال عنها جائزتين في الأدب منها رواية “المخبرون المتوحشون”، “2666”، “التعويذة

عالم ممسوح

قبل أن يتوفى عن خمسين عاماً، أنجز الروائي التشيلي، المنفي قسراً ثم طوعاً إلى المكسيك، روبيرتو بولانيو، روايته الكبيرة «2666». ونشرت هذه في 2004، بعد وفاته. وهي خمس روايات في واحدة، ويبلغ عدد صفحاتها نحو الألفين، وتحاكي العالم الممسوخ الذي تتناوله وبعض أحواله. وأولها انكماش هذا العالم، واقتراب مواضعه بعضها من بعض، وإحساس البشر بأنهم في صحراء يخيم عليها العبث، ويسودها من أدناها إلى أقصاها. وتلم حوادث الرواية وشخوصها بتاريخ القرن العشرين المضطرب، بين القارة الأميركية وأوروبا الهرمة، وتتعقب حركة التعولم وثناياها المظلمة.

وترسم الأجزاء الخمسة خريطة الشر المكانية والزمنية. ولا تستقيم وحدة القص والسرد ما لم تحمل على البعد المكاني. الرواية، «2666»، ينقل إلى عالم الألفية الثانية غلبة «الشرير» في سفر الرؤيا وإيذانه بنهاية الأزمنة وفصلها الذي يسبق فصل «ملء الأرض عدلاً». وتتبوأ مدينة سانتا تيريزا، وهي نظير متخيل للمدينة المكسيكية ثويداد دي خواريث («عاصمة» عصابات المخدرات وحروبها الدموية) على حدود الولايات المتحدة والمكسيك المشتركة، صدارة الحوادث وروايتها. وثويداد دي خواريث مسرح مقتل 430 امرأة قتلن في تسعينات القرن الماضي، و «مرآة إحباطاتنا وتأويلنا السافل لحريتنا ورغباتنا» ولعنتنا، على نحو ما يكتب بولانيو.

ويسمي الكاتب الحلقة التي تتوسط الكتاب «جزء الجرائم»، ويدعو القارئ فيه إلى تصفح إحصاء ووصف دقيقين للجرائم الفظيعة التي جعلت هذه المدينة جهنم على الأرض. والجزء الأول يتتبع رحلة أربعة جامعيين أوروبيين يقتفون بدورهم أثر كاتب ألماني اختفى فجأة ومن غير إنذار، اسمه أرشيمبولدي. وتقودهم رحلتهم إلى سانتا تيريزا في المكسيك. والجزء الموسوم بـ «جزء فايت (الكفاح)» يروي قصة صحافي أفريقي – أميركي شاب قصد سانتا تيريزا ليكتب تحقيقاً في دورة ملاكمة محلية، وأقلع عن قصده الأول وانصرف إلى تقصي جرائم القتل. وموضوع الجزء الثالث من الرواية هو أمالْفيتانو، أستاذ الفلسلفة التشيلي المنفي إلى هذه الناحية.

      و قراءة الرواية تشبه التحري عن رسم جامع يلم شتات قطع مبعثرة ومفككة. والحق يقال إن القارئ لا يبلغ الرسم الجامع الذي ينشده، ويبقى على انتظاره وخيبته. وبعض شخوص الرواية لا يربط بينهم خيط أو سبب، وتتناثر سياقات القصص والحكايات على شاكلة استطرادات مستقلة ومنفصلة لا تحصى. فليس حل اللغز أو الكشف عنه هو المنطق الذي يجمع أطراف الرواية، على خلاف منطق الرواية البوليسية الذي يخيل للقارئ أن «2666» تحاكيه وتستعير بعض صوره. فهي تجري على مثال سعي يتنقل بين أمكنة ومراحل من التاريخ المعاصر، ولا يبلغ غاية أو مقصداً. والعالم الذي يرتسم أمام عيني القارئ وفهمه في آخر مطاف القصص وفروعها الكثيرة والمتشابكة، فقد وحدته وتماسكه المرجوين، واسترسل في عرض ثغراته وفروقه وراء ستارة بداهته الخادعة وتقارب حوادثه وقرانها المتوهم.

وتصل بين أجزاء المتاهة مسألتان: سر الشر الذي يلازم العولمة مثل ظلها، ومهمة الأدب أو دوره في عالمنا الجديد هذا. فرحلة البشر المعاصرين هي رحلة مدانين ملعونين. وإذا طلب إلى واحدهم وصف رحلته وَصَف دوائر الجحيم وحلقاته. وهو تنقل بين هذه الدوائر، فعلاً وحقيقة، من تشيلي بينوشيه إلى المكسيك ففرنسا ثم إسبانيا وبلدان أخرى من أوروبا، من غير رجعة ولا ملاذ.

وهو يروي الوجه المظلم والقاتم من العولمة، ويمثِّل عليها بسانتا تيريزا. والجرائم على حدود الولايات المتحدة الأميركية هي مرآة عصر تدثر فيه الازدراء بثنايا المجتمعات وطياتها وراء قناع اللامبالاة والحياد. والجزء الأول يروي تعقب الجامعيين الأوروبيين الأربعة أثر الكاتب الألماني أرشيمبولدي، ورسوهم بسانتا تيريزا. وعلمهم الجامع لا يقيهم صدمة بؤس البشر وقساوة الجرائم، بل يتكشف عن حجاب وربما عن موطن ضعف. وعلاقتهم بواقع الحال هي علاقة أوروبيين يثقون بالثقافة ومسلِّمين بإخفاق الأيديولوجيات، فيحملون الفظاعة المروعة على مسألة جمالية وفردية، ويعالجونها بواسطة الانبهار والإغراق في الدهشة. فيصنع الشر فيهم ما تصنعه رأس الغورغون الأسطورية وأفاعيها المتكاثرة في الناظرين إليها، فتحجز عليهم في غرف فنادقهم أو تسوقهم إلى المغادرة عنوةً. وإذا أرادوا فهم الأمور من طريق الفكر والعقل تعرضوا للإصابة بالجنون. وتحري العلماء الأوروبيين عن أثر الكاتب المفقود لا يقودهم إلى لقاء الغريب واختبار قصور معرفتهم وعلمهم، بل إلى الواقع المرعب الذي تتستر عليه خفايا العوملة ودهاليزها الخلفية.

         ويتخيل القادمون من أوروبا صورة جدارية فكرية أو فنية عريضة، وتتصور في أذهانهم قذارة المدينة وجرائمها، ويتوقعون قلق الصبح الطالع، ولكن معاناتهم الوقائع ومباشرتها بأنفسهم تستحيلان عليهم، وهم لا يطيقون المعاناة ولا المباشرة. فحمل العالم على الجماليات يفضي لا محالة إلى إخراجه من حقيقة الحياة المأسوية ومكابدتها. وتجانس الأمكنة المعولمة ليس في مستطاعه محو خصائص مناخاتها، على ما تشهد أجساد المسافرين المترحلين.

ارض مقبرة

        وسانتا تيريزا هي أرض مقبرة يرتادها البشر الأحياء في صورة أطياف أو أشباح، ولكن فيها الموتى الأحياء. وفي رواية أخرى سابقة، «أموليتو» (تميمة)، كتب روبيرتو بولانيو أن (مدينة) غيريرو قوية الشبه بمقبرة تعود إلى عام «2666»، «منسية تحت جفن ميت أو معدوم أو (تحت) عين أرادت نسيان أمر واحد وانتهت إلى نسيان الأشياء كلها». والنساء، وكلهن عاملات، قتلن من غير أن يأبه أحد لمقتلهن: فهن سواعد تعمل في خدمة رأس المال، والعدالة نسيتهن وأهملتهن بينما كلمات «الإغاثة الإنسانية» و «حقوق الإنسان» على كل الألسن والشفاه. فعين العالم تعمى عنهن وتتركهن وتلبس شكل عين شؤم تؤذن بمقبرة «2666».

     وشخصيات الرواية لا تزعم اكتشاف الظلم الواقع على النساء المقتولات. ولا يصطنع بولانيو سذاجة جهلنا بمخلفات العولمة المدمرة. والعالم هدم الجدران التي تفصل بين أجزائه، ولكنه أمسى كذلك محلاً للنسيان، وميداناً يكتسحه الشر ويتربع في سدته. وتباطؤ الإدارات والفساد والعطالة السياسية قرائن جلية على العدمية المنشبة براثنها في سانتا تيريزا. وأهل بلدان الجوار القريب، والولايات المتحدة من هذه البلدان، لا يبدون رفضاً ولا مقاومة، ولا تدعوهم فظاعة الجرائم إلى التصدي لمقترفيها. فالرضوخ هو ضمانة بقاء على قيد الحياة في هذا الجحيم. والجزء الذي تعالج فيه الرواية الجرائم يجهر مصير الضحايا الأليم، ويصف ملابسات اكتشاف الأجساد والتمثيل بها. فالشرور والآثام الظاهرة والمشهودة هي مرآتنا و «العلامة» على زمن يقهر فيه الفقير، ويهان جسد المرأة، ويتمتع القوي بالحماية والحصانة. فثمن العولمة هو نسيان كرامة، البشر، من جهة، وغلبة النازع إلى شراء البقاء باللامبالاة وتآلف الشر واعتياده والرضوخ لتظاهراته المسرحية الفاقعة، من جهة أخرى.

 


مشاهدات 1081
الكاتب هديل عادل كمال
أضيف 2023/12/01 - 2:30 PM
آخر تحديث 2024/09/25 - 6:39 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 210 الشهر 38767 الكلي 10027389
الوقت الآن
الجمعة 2024/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير