الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هايكو غرام على فم جلجامش لروائي عراقي

بواسطة azzaman

فاعلية التوظيف والمثاقفة في فضاء الخطاب السردي

هايكو غرام على فم جلجامش لروائي عراقي

عبد الكريم عيسى

 

ضمن المتن الحكائي لهذة الرواية، يستدعي الروائي (نعيم عبد مهلهل) الحادثة التاريخية لغرق كنوز الاثار التي تعود للحقبة الاشورية والبابلية وهي محملة على زوارق كبيرة في نهر دجلة عام 1855 حيث ملتقى النهرين في مدينة القرنة جنوب العراق وعند شجرة ادم المقدسة. وفي عام 1971 جاءت الى العراق بعثة اثارية يابانية برئاسة الدكتور (نامي كامي) للتحقيق والبحث عن مزاعم غرق كنز من اللقى والتحف والتماثيل الاثرية وبعد عام 2003 يصل طالب الدراسات الياباني (ايشو )من جامعة طوكيو قسم الدراسات الاثارية، ضمن البعثة اليابانية للتنقيب في اوروك. ويبقى على اتصال مع استاذه البروفيسور (مشيما يامازاكي) المعجب بنصوص جلجامش. وكباحث ،توقف في مكان الكنز المفقود وبدأ يذهب الى اوروك للاطلاع على ما يقترب منه لتدوين مذكراتة عن المكان. وخلال رحلاتة الاسبوعية كان يستمتع بمشاهدة بيئه الاهوار وهو يقيم وشائج الصداقة والتحاور مع اهلها. وفي مقر اقامته في اور،  تشرف على حمايته المجندة الامريكية (انجيلا هاوميني) من اصول افريقية من الكاميرون . ومن ثم ينتقل الى مدينة اوروك الاثرية في السماوة حيث مقر القوة اليابانية ويرافقة حارس الاثار (دشر) الذي ورث المهنة عن ابيه والذي يتحدث باللغة الالمانية الى جانب الانجليزية والعربية على الرغم من انه لم يدخل المدرسة. ويكتنز ثقافة اسعدت الباحث الاثاري (ايشو) وله ابن يدرس الالمانية في كلية اللغات بجامعة بغداد.

 وبطريقة انتقائية منتجة وفاعلة، يستلهم من التراث،سيما، (ملحمة جلجامش) بآلية مرتكزة الى وعي الذاكرة الجمعية وما فيها من مخيلة شعبية تمكنه من صياغة رموز واسقاطات فنية، ينشد من ترحيلها الى ادراك افاق مستقبلية ومواجهة تداعيات الزمن المعاش. لذا يتحرك بوعي تاريخي يستثمر فيه مخزون الشعور الجمعي وما يمتلكه من خزين ثقافي ومعرفي ينسجم مع تجربته كروائي من آليات الانفصال والاتصال حسبما يلبي وجهات نظر الانتقائية، معززا قدراته على البقاء والاستمرار ،وعدم انشغاله بالاطار التاريخي للملحمة بل تنسيق الصلة دلاليا يعكس براعته الفنية باستلهام منتج لاجواء وشخصيات واحداث الملحمة ،وما تشمله من مضامين فلسفيه ونفسيه وحضارية. ففي حديث للحارس (دشر) يقول:(( اتذكر ان عالما المانيا كان هنا ، وكنت صبيا ارافق ابي وهو يحرسه في تجواله قال لابي مرة: نحن جئنا لاوروك لنثبت للعالم ان جلجامش تعامل مع الحياة روحيا في بحثه عن الخلود، الذي تخيل ان الطاقه الجسدية والقوة هي من تحققه ولكنه فشل في ذلك ، وادرك ان الروح وليس الجسد هي من تجعل حركة العالم تمضي الى متغيراته، وربما عرف ان الروح والجسد يتآلفان سوية في خلق القناعة بان البقاء يرتهن بخلود ارواحنا كاطياف سابحة في مخيلة الزمن فيما الجسد يذهب ليدفن تحت التراب او في قبو، ص102))

 كما يعزز السارد نعيم عبد مهلهل ذلك حينما يقول:

(( شعرَ (ايشو) انه لا يتعامل مع حارس اثار بسيط انما يتعامل مع ضمير المكان،ص103))

 ورحلة جلجامش للبحث عن الخلود هي اكتشاف حقيقة الوجود البشري، وتاكيدا لاثبات هويته وذاته ليمارس مهامه التكليفية في بناء اوروك التي اصبحت في الذاكرة العراقية والكونية دالة رمزية للتطور الاستثنائي عمرانيا وحضاريا. وعلى النقيض من ذلك،  يظهر لنا اوروك المعاصرة -مدينة السماوة وصراع الانسان فيها مع عوامل القهر والاحباط تحت ظروف قسرية في جوانبها الاجتماعية والسياسية والنفسية والمادية وما يحدث من غموض ومجهول لمصير الاجيال. مما يفضي الى تفشي ظاهرة الياس والاحباط الى حد سلب الانسان شحنات حضوره الوجودي وتواصله مع جذوره التراثية والحضارية.

قلب العالم

والى جانب الافادة المعرفية من احالات هذه الروايه الى الامكنة السومرية لاثار العراق القديم، فهي تغذي ثقتنا بوجودنا الحاضر وتديم صلتنا بها لما تحتويه من كثافة زمنية وما تحمله الامكنة الاثرية من خصوصية لايقاظ الرموز، وما حاولت به من استرجاع المكان لاحياء علاقته مع العالم. فتشكل العزلة هنا قلب العالم ،علاوة على ذلك، يصبح بامكان الشخصية المنتمية لهذا المكان ان تخاطب العالم من خلال علاقتها الشرطية به وعلاقتها التاريخية. ولم يعد المكان الخاص هنا هو مكان للأنا فحسب، بل يمتلك خصوصية في نقاط تقاطعه الى جانب ذكرياته المشتركة في التحاور مع الاخرين. وفي ضوء المكان الافقي ينشط التفاعل الدلالي لمتواليات النص السردي هنا وهناك ليفيض بديمومة تبادلية في التموقع والتعاقب عبر امتداداته في وجوده لوعي المتكلم/ الكاتب. مما يجعل الامكنة هنا التي ينطلق منها فكريا وثقافيا تتقاطب انيا مع الامكنة هناك. ويتمثل، ذلك من خلال التبادلية التاثيرية في استحضار الاماكن والتمثلات لذلك العمق الحضاري وما فيها من طقوس ورمزية حضور بما يناظر مثيلاتها في العراق القديم فيما يستنطق من رمزية الامكنة الاثارية للحضارة الرافدينية، ذلك يجعل المكان يصير الى حالة من البلاغة الاجتماعية على حد تعبير (جيرار جنت) فيشتغل كناظم ثقافي. ويتجسد ذلك على سبيل المثال ، في بلاغة الحوار بين الحارس العراقي (دشر) والمنقب الياباني، كحديثة عن الادب الالماني  واشارتة الى (هرمان هسه) في روايته (سد هارتا).

 وفي ضوء آلية اشتغال المكان العمودي، تعمل الذاكرة الثقافية المكانية في ادائها الدلالي لتمثيل ذلك ضمن محورية التمكن. اذ ياخذ بنظر الاعتبار السياقات التاريخيه التعاقبية فيظهر ضمن اليه الحضور- الغياب او طوباغرافيا بدلالة هنا-هناك فيفضي ذلك الى حالة الفقد والضياع عبر لحظات تاريخية بحالة غياب بالتعالي عن المعقول المتمكن .اي يكون المكان هنا تعاقبيا معقولا في سيرورة الحياه وواقعيتها ويحمل هوية تاريخية بالتمكن. وفي حاله الغياب، تتحرك لغه النص بمكافئات استعارية تنشد الوعي الروحي والتاملي بطقوس صوفية تحاول الشخصية استحضارها بما يرتبط بالواقع المكاني.

منطلق ثقافي

 ومهما يكن من امر، وبلغة خطاب موفقة، يعمل النص السردي في ضوء نمط المكان العمودي تراتبيا بما يحقق الاستجابة للمنطلق الثقافي في حالتي الفقد وما تفضي اليه من تمكن، جاء في حركة مساوية في الانتماء الطبيعي والنوعي ومتحركة باتجاه احتلالي .وفي ذلك وعي للاسباب وعدم التسليم بالاسترجاع وفي حالة الغياب، يتعالى الى المكان المفقود عن الدنيوي والمدنس في طبيعة مقدسة لا يمكن ادراكها الا في الوعي الروحي والعاطفي ويتجسد هذا في موارد عديدة الى جانب المقتبسه انفة الذكر يحاور الحارس (دشر) الاثاري الياباني (ايشو):

(( انت تمتلك بوذا واحد تلجا اليه لتطلب الرحمه والمغفرة وتصاحبك اليه امك او حبيبتك او جدتك، اما انا فحين الجا الى امكنة شتى لاجداد بعيدين بنو لنا اوروك وعلينا ان نفتخر بما خلفوه لنا قبورا واضرحة لائمه وقديسين يشفعون لنا، ص40)).....

 فانا اعرف ما يعرفه عالم السومريات ،وهو يقرا الكلمة المسمارية ، وانا اقراها ايضا، هو بذل جهدا هائلا ليتعلمها وانا لم ابذل سوى منادمة الليالي المقمرة مع الحجر وما هو مدون عليه، واستفدت ايضا من المنقبين الذين جاؤوا الى هنا، لهذا انت لك قديس واحد ، وانا لي الف قديس،ص140)).

 ومن بين اليات التوظيف في هذه الرواية ، يحضر مسار المستوى الايروتيكي بتسامي، بعيدا عن الابتذال ضمن اجواء المحبة والتحاور وبعيدا عن الشذوذ اللغوي فيقدم صوت الجسد المقدس وبرائته، بحثا عن فضاء الحرية. فياتي الجسد مشحونا بالنقاء والعواطف والمشاعر الانسانية الصادقة ان يركز على اعادة الجسد لفلسفته في الحياة وبحثه عن السكينة والهدوء الروحي والاطمئنان النفسي واعادة الانسان الى انسانيتة:

 ((همست مجندة المارينز (انجيلا) المكلفة بتوفير الحماية للباحث والمنقب الاثاري (ايشو)):

لنسر ونحن نمسك  ايدينا ببعضها كما في نزهة ص41)) وباحترام منها لخصوصية الامكنة وبعيدا عن الانغماس في شهوات غطرسة المحتل، تقول في موضع اخر:« هذه الامكنة ليست لنا، ولكنها تصنع للغرباء شهيه ممارسه طقوس تبعد عنهم الخوف والناي واشياء اخرى،ص45))

 فتقترب هنا،  الى نزعه صوفية مشحونه بمواقف انسانية.

 وبتوظيف مؤثر، يستلهم ايضا من شعر الهايكو واجوائه وبيئته الشعرية بمثاقفه منتجة في مُدخلات ومُخرجات ذات قيمه ادبيه سردية عاليه الجدوى.

 وتاسيسا على ان شعر الهايكو منتج لعمليه خيال يتداخل فيها المرئي باللامرئي والملموس باللامحسوس ، وما فيه من وصف لمشاهد عادية بطريقة غير عادية،  تتوفر رواية (هايكوغرام على فم جلجامش) على محاكاة حيوية ومثاقفة منتجة مع عناصر هذا الجنس الشعري القادم من البيئة الاجتما-ثقافيه اليابانيه لاثراء ذائقه المتلقي، مما يغذي التاثير المتبادل لكل من اللغه والهوية. ومن خلال استحضاره الفاعل، يسهم في تعزيز المعرفه والتحسين الثقافي والفكري ،اضافه الى تنشيط لغه المجاز وتفعيل الايقاع والمشهديه الانيه والصور البصريه والتصوير والتامل:

((فحينما يصغي الاثاري (ايشو) الذي يحبذ التحدث باللغه العربية الى اغنيه نخل السماوة على طول الطريق بين لارسا والسماوة، ظل صوت حسين نعمة يصنع نشوة السماع في روح الياباني (ايشو) كمن يتصفح كتابا لهايكو قديم حفظه من طفولته:

((عندما تمرين امام شجرة الكرز

 اتمنى ان اكون ظلا وتحية

 فيشاطره الروائي (نعيم عبد ملهل):

((وها هي سمراء نخل السماوة تمر امام ناظرية فيتخيلها اميرة سومرية تصبغ اسفلت الطريق بنوتات موسيقية لاغنية احبها دون ان يعرف معناها  ص72)).

وفي حوار (ايشو) ومع استاذه في طوكيو (البروفيسور مشيما يامازاكي) والذي جاء مع البعثة الاثرية سابقا وكان يرافقه والد (دشر) حارس الاثار المرافق لايشو اليوم، وقد خبر المكان وتعرف على بيئته الاثرية والتاريخية والانثروبولوجية والاثنوغرافية عن كثب،  قال البروفيسور (مشيما يامازاكي) الى (ايشو):

(هناك هايكو ياباني قديم يقول:

« ظل الصديق مثل ظل الشجرة

غرام الضوء فيه عناق وخطوات

كان انكيدوا ظلا لجلجامش الذي كان شجرة اوروك، كن انت انكيدو للمكان الذي قد لا يامن اليك فلربما تجعل منه على ما يجعله محميا، فانت ات مع دبابة، اما انا فاتيت مع بعثة اثرية ،ص91))

فتمنح الفسحه الايحائيه لهذا التشابك السردي المتذاوب بفاعلية الحضور المجازي (للهايكو) تواشجا حيويا ينسجم مع روح البيئة الاجتما-ثقافية للخطاب السردي.  لذا تشكل هذه الرواية مساحات خصبة لتصوير لحظات التوتر واطلاق الاسئلة وتؤدي وظيفتها الادراكية الى جعل الانسان يعبر عن احساسه بمكانه في الوجود. ويحبذ السارد لعبة تطوير الحساسية اللغوية في ايجاد مناطق توتر مريحة ضمن ابدية الوجود فتستقي من لغة الشعر الرمز والخيال والمجاز متحايثة مع فضاء جماليات ومضامين شعر الهايكو ومتموضعة في منطقة الوقوف المتحرك في الابدية. ويدل حراك الشخصيات ضمن مخاض الاحداث والمواقف والتصورات على وعي الانسانية لنفسه وللعالم المحيط به فتعج باسئلة مفتوحة تتمثل لحظات الانتقال من الوعي الى العالم وبالعكس فهو يرصد ويفعل حضور اللحظات الانسانية المغيبة لتنتعش وتتفاعل في صيرورات المكان واشعاعاته لتصبح مفعمة بالحياة. وتكشف الامكنة بحيوية اشعاعات حاضنتها اللغوية عن اوضاع الشخصيات الاجتماعية واصواتها النفسية والعاطفية وما يصدر منها من افعال.


مشاهدات 580
أضيف 2023/11/25 - 12:39 AM
آخر تحديث 2024/07/14 - 6:02 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 332 الشهر 7900 الكلي 9369972
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير