الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عن‭ ‬الألم

بواسطة azzaman

عن‭ ‬الألم

حسن‭ ‬النواب

 

كنتُ‭ ‬على‭ ‬وهمٍ‭ ‬شاسعٍ‭ ‬حين‭ ‬ظننتُ‭ ‬أني‭ ‬اكتويتُ‭ ‬بقسوةٍ‭ ‬وبلا‭ ‬رحمةٍ‭ ‬في‭ ‬مرجل‭ ‬العذاب‭ ‬والمكابدة‭ ‬والشقاء؛‭ ‬وأنَّ‭ ‬الألم‭ ‬صار‭ ‬صديقي‭ ‬الوحيد،‭ ‬بتُّ‭ ‬أشعر‭ ‬كأني‭ “‬فارتر‭” ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬برع‭ ‬الكاتب‭ ‬الألماني‭ ‬يوهان‭ ‬غوته‭ ‬في‭ ‬نسج‭ ‬أحداثها‭ ‬الموجعة؛‭ ‬أجل‭ ‬كنتُ‭ ‬على‭ ‬وهمٍ‭ ‬وأنا‭ ‬أتلَّظى‭ ‬بجمرات‭ ‬الألم‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬أيام‭ ‬الدراسة‭ ‬الجامعية؛‭ ‬يوم‭ ‬شغفتُ‭ ‬بحب‭ ‬فتاةٍ‭ ‬من‭ ‬الديوانية‭ ‬كانت‭ ‬معي‭ ‬على‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة‭ ‬وخذلتني‭. ‬حاولت‭ ‬الانتحار‭ ‬لمرتين‭ ‬تحت‭ ‬يافطة‭ ‬الألم؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬أستاذاً‭ ‬جامعياً‭ ‬أغواها‭ ‬بمكرهِ‭ ‬الجبلي؛‭ ‬أذكر‭ ‬أني‭ ‬قابلتُ‭ ‬والد‭ ‬تلك‭ ‬المعشوقة‭ ‬يوم‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬عاشوراء‭ ‬وفي‭ ‬كربلاء‭. ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬بجوار‭ ‬والدي؛‭ ‬فهما‭ ‬صديقان‭ ‬منذُ‭ ‬أيام‭ ‬الصبا؛‭ ‬وإذا‭ ‬بهِ‭ ‬يشير‭ ‬بيده‭ ‬نحو‭ ‬مكان‭ ‬ابنته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬بين‭ ‬حشد‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬اللائي‭ ‬جئنَ‭ ‬لمشاهدة‭ ‬ركضة‭ ‬طوريج؛‭ ‬كنتُ‭ ‬أعيش‭ ‬هائماً‭ ‬على‭ ‬وجهي‭ ‬وقد‭ ‬امتلكتني‭ ‬لوثة‭ ‬العشق‭ ‬بكل‭ ‬جنونها‭. ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬جدوى‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات؛‭ ‬بعد‭ ‬صدودها‭ ‬عني‭ ‬وتجاهل‭ ‬مشاعري‭ ‬التي‭ ‬عَشَقَتْها‭ ‬بكل‭ ‬جوارحي؛‭ ‬لكني‭ ‬أخبرتهُ‭ ‬بحسرةٍ‭ ‬منكسرةٍ‭ ‬كادت‭ ‬تخنقني‭:‬

‭ – ‬ابنتكَ‭ ‬الفاتنة؛‭ ‬أحالتْ‭ ‬حياتي‭ ‬الى‭ ‬رماد‭.‬

وانصرفت‭ ‬عنهما‭ ‬وسط‭ ‬ذهول‭ ‬أبي‭ ‬رحمهُ‭ ‬الله‭. ‬وحين‭ ‬فُـتحتْ‭ ‬باب‭ ‬الحرب‭ ‬مصراعيها‭ ‬لاستقبالي‭ ‬توهَّمتُ‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬أنَّ‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يصادفني‭ ‬على‭ ‬السواتر‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬هو‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬شبيه‭ ‬لهُ‭ ‬مطلقاً،‭ ‬ذلك‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬جعلني‭ ‬أحملُ‭ ‬بهاتين‭ ‬اليدين‭ ‬عشرات‭ ‬الشهداء‭ ‬من‭ ‬أصحابي،‭ ‬بلْ‭ ‬إنَّ‭ ‬دماءهم‭ ‬مازالت‭ ‬رائحتها‭ ‬عالقة‭ ‬بين‭ ‬أصابعي؛‭ ‬ذلك‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬موتي‭ ‬وموت‭ ‬صاحبي‭ ‬بضع‭ ‬دقائق‭ ‬ليس‭ ‬إلاَّ؛‭ ‬فما‭ ‬أنْ‭ ‬هبطتُ‭ ‬من‭ ‬قُبَّة‭ ‬رصد‭ ‬الدبابة‭ ‬واحتل‭ ‬مكاني‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬نوبة‭ ‬حراستي‭ ‬على‭ ‬الساتر‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬جبهة‭ ‬شرق‭ ‬البصرة‭ ‬وفي‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أنوي‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬أسفل‭ ‬الدبابة‭ ‬للراحة‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬القصف‭ ‬حتى‭ ‬دوَّى‭ ‬صوت‭ ‬انفلاق‭ ‬قنبلة‭ ‬سقطت‭ ‬على‭ ‬برج‭ ‬الدبابة‭ ‬وأحالت‭ ‬شظاياها‭ ‬الملتهبة‭ ‬جسد‭ ‬صاحبي‭ ‬الذي‭ ‬استلم‭ ‬مني‭ ‬نوبة‭ ‬الحراسة‭ ‬إلى‭ ‬أشلاء‭ ‬متناثرة،‭ ‬حينها‭ ‬حسبتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬ذلك‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬غزا‭ ‬مسارب‭ ‬روحي‭ ‬لا‭ ‬مضضاً‭ ‬بعده‭. ‬وكنت‭ ‬على‭ ‬وهم‭ ‬بذلك‭ ‬الألم‭ ‬حين‭ ‬رأيتُ‭ ‬جنود‭ ‬الانضباط‭ ‬العسكري‭ ‬يطلقونَ‭ ‬رصاصات‭ ‬الإعدام‭ ‬على‭ ‬جندي‭ ‬بجسد‭ ‬هزيل؛‭ ‬كل‭ ‬جريمته‭ ‬أنَّهُ‭ ‬تخلَّف‭ ‬عن‭ ‬الالتحاق‭ ‬إلى‭ ‬جبهة‭ ‬الحرب‭ ‬لمدة‭ ‬أسبوعين‭. ‬وكنتُ‭ ‬على‭ ‬وهمٍ‭ ‬حين‭ ‬أيقنتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬صاحبني‭ ‬وأنا‭ ‬افترش‭ ‬أرصفة‭ ‬وحدائق‭ ‬بغداد‭ ‬بصحبة‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬وكزار‭ ‬حنتوش‭ ‬في‭ ‬عزّ‭ ‬الشتاء‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يغطي‭ ‬عظامنا‭ ‬المرتجفة‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬سوى‭ ‬نار‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬التي‭ ‬تستعر‭ ‬في‭ ‬دمائنا‭ ‬وأوراق‭ ‬قصائدنا‭ ‬الكسيرة‭ ‬الجناح،‭ ‬كدتُ‭ ‬أوقنُ‭ ‬أنَّ‭ ‬ذلك‭ ‬الألم‭ ‬ما‭ ‬بعده‭ ‬أسى،‭ ‬وتوهمتُ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الألم‭ ‬أيضاً‭ ‬عندما‭ ‬رحلت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬عن‭ ‬الدنيا،‭ ‬ولم‭ ‬يكنْ‭ ‬بوسعي‭ ‬العودة‭ ‬من‭ ‬الأردن‭ ‬إلى‭ ‬البلاد‭ ‬لرؤية‭ ‬وجهها‭ ‬الحنون‭ ‬ولثم‭ ‬يديها‭ ‬وحمل‭ ‬جثمانها‭ ‬مع‭ ‬أشقائي؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬حبل‭ ‬الإعدام‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الطاغية‭ ‬كان‭ ‬بانتظاري‭. ‬ولذا‭ ‬كظمتُ‭ ‬أوجاعي‭ ‬مثل‭ ‬أسير‭ ‬أعزل‭ ‬لا‭ ‬وسيلةً‭ ‬أمامهُ‭ ‬سوى‭ ‬النحيب‭ ‬على‭ ‬رحيلها‭. ‬لقد‭ ‬توهَّمتُ‭ ‬كثيراً‭ ‬أنَّ‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬استوطن‭ ‬مجاهل‭ ‬دمي‭ ‬وحجرات‭ ‬فؤادي‭ ‬هو‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬لاينافسه‭ ‬أي‭ ‬وجع‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬وتوهَّمتُ‭ ‬مرَّة‭ ‬أخرى‭ ‬أنَّ‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬يلازمني‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬غربتي‭ ‬هو‭ ‬الألم‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬صادفته‭ ‬في‭ ‬حياتي‭. ‬لكني‭ ‬بعد‭ ‬عامين‭ ‬على‭ ‬غربتي؛‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬رحيل‭ ‬أصدقائي‭ ‬الشعراء‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬وعقيل‭ ‬علي‭ ‬وكزار‭ ‬حنتوش‭ ‬وعبد‭ ‬اللطيف‭ ‬الراشد‭ ‬ويوسف‭ ‬الصائغ‭ ‬وهادي‭ ‬السيد‭ ‬هو‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬فاق‭ ‬ألم‭ ‬الغربة‭ ‬بمسافات‭ ‬لا‭ ‬تعد‭ ‬ولا‭ ‬تُحصى،‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬ألمي‭ ‬على‭ ‬فراق‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الشعراء‭ ‬تفوَّقتْ‭ ‬عليه‭ ‬آلام‭ ‬فجيعة‭ ‬جسر‭ ‬الأئمة؛‭ ‬ثمَّ‭ ‬ألم‭ ‬اختطاف‭ ‬الفتى‭ ‬الوسيم‭ ‬مروان‭ ‬ابن‭ ‬صديقي‭ ‬الشاعر‭ ‬خزعل‭ ‬الماجدي،‭ ‬وحين‭ ‬حدثت‭ ‬فاجعة‭ ‬اختطافه؛‭ ‬كنتُ‭ ‬في‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬حيثُ‭ ‬أنهيتُ‭ ‬أصبوحتي‭ ‬الشعرية‭ ‬بعد‭ ‬عودتي‭ ‬إلى‭ ‬البلاد‭.  ‬وسمعتُ‭ ‬بالنبأ‭ ‬فانكمش‭ ‬قلبي‭ ‬وضاقتْ‭ ‬أنفاسي؛‭ ‬هبط‭ ‬مروان‭ ‬أمام‭ ‬ناظري‭ ‬بعمر‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬وهو‭ ‬يمرح‭ ‬مثل‭ ‬مهرٍ‭ ‬نزق‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬شقَّة‭ ‬الماجدي‭ ‬عندما‭ ‬سهرتُ‭ ‬مع‭ ‬كزار‭ ‬حتى‭ ‬الفجر‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬خزعل‭ ‬يقرأ‭ ‬لأول‭ ‬مرَّة‭ ‬قصيدته‭ ‬الشهيرة‭ ‬عكازة‭ ‬رامبو‭. ‬لم‭ ‬أصدق‭ ‬خبر‭ ‬اختطافهِ‭ ‬ولكن‭ ‬حين‭ ‬توهَّجتْ‭ ‬جمرات‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬تركتُ‭ ‬النادي‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬نسمة‭ ‬هواء‭ ‬والعبرات‭ ‬تلسع‭ ‬وجهي؛‭ ‬أسندتُ‭ ‬ظهري‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬المبنى‭ ‬وانهمكتُ‭ ‬أنتحب‭ ‬مثل‭ ‬امرأة‭ ‬ثاكل‭ ‬فقدت‭ ‬قرة‭ ‬عينيها‭ ‬في‭ ‬حربٍ‭ ‬غادرةٍ،‭ ‬نعم‭ ‬لقد‭ ‬آلمني‭ ‬غياب‭ ‬مروان‭ ‬خزعل‭ ‬الماجدي‭ ‬كثيراً،‭ ‬ذلك‭ ‬الفتى‭ ‬الوسيم‭ ‬الذي‭ ‬مازالت‭ ‬صورته‭ ‬وهو‭ ‬بعمر‭ ‬الطفولة‭ ‬تغفو‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬في‭ ‬حدقتي‭ ‬عينيّ،‭ ‬لكني‭ ‬كنتُ‭ ‬واهماً‭ ‬بآلامي‭ ‬أيضاً؛‭ ‬إذْ‭ ‬لم‭ ‬يكنْ‭ ‬هو‭ ‬الألم‭ ‬الفظيع‭. ‬وأنا‭ ‬أراقب‭ ‬مجازر‭ ‬الصهاينة‭ ‬في‭ ‬غزَّة؛‭ ‬لكني‭ ‬شعرتُ‭ ‬بفداحة‭ ‬الألم‭ ‬حين‭ ‬تذكَّرتُ‭ ‬ليلة‭ ‬أمس‭ ‬رحيل‭ ‬أخي‭ ‬علي‭ ‬النواب‭ ‬لاسترجع‭ ‬في‭ ‬خاطري‭ ‬سنوات‭ ‬رفقتنا‭ ‬في‭ ‬شعاب‭ ‬الحياة؛‭ ‬واكتشفت‭ ‬معنى‭ ‬الألم‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬استوطن‭ ‬خلايا‭ ‬جسدي‭ ‬حين‭ ‬هاتفتهُ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬الحياة‭ ‬بأسابيع‭ ‬حين‭ ‬أخبرني‭: ‬

‭- ‬هنا‭ ‬في‭ ‬البلاد؛‭ ‬حتى‭ ‬الفرح‭ ‬يبكي‭ ‬بالخفاء‭. ‬

حينها‭ ‬أدركتُ‭ ‬معنى‭ ‬الألم؛‭ ‬وهو‭ ‬باختصار‭ ‬حنيني‭ ‬إلى‭ ‬البلاد؛‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أني‭ ‬سأعود‭ ‬لمرابعهِ‭ ‬يوم‭ ‬غدٍ،‭ ‬كلا‭ ‬لنْ‭ ‬أعود‭ ‬إلاَّ‭ ‬حين‭ ‬أرى‭ ‬الفرح‭ ‬طاغياً‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬البلاد،‭ ‬ولكن‭ ‬هيهات؛‭ ‬وهيهات،‭ ‬أجلْ‭ ‬لقد‭ ‬عرفت‭ ‬معنى‭ ‬الألم‭ ‬الآن؛‭ ‬وانكسرَ‭ ‬ظهري‭. ‬

 


مشاهدات 486
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2023/11/06 - 4:51 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 7:19 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 404 الشهر 11528 الكلي 9362065
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير