الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بلادٌ‭ ‬تبحثُ‭ ‬عن‭ ‬وطن

بواسطة azzaman

بلادٌ‭ ‬تبحثُ‭ ‬عن‭ ‬وطن

حسن‭ ‬النواب

 

دعوني‭ ‬أتغزَّلُ‭ ‬بأرض‭ ‬السواد‭ ‬بمنتهى‭ ‬الحرية‭ ‬والجنون،‭ ‬وأبدأُ‭ ‬من‭ ‬لوحٍ‭ ‬سومري‭ ‬تلألأت‭ ‬على‭ ‬طينه‭ ‬المقدَّس‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬حب‭ ‬على‭ ‬البسيطة،‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬اختزلت‭ ‬العشق‭ ‬بسطور‭ ‬قليلة،‭ ‬والتي‭ ‬كتبها‭ ‬بغصن‭ ‬من‭ ‬الآس‭ ‬سومري‭ ‬يمطر‭ ‬شعراً‭ ‬ساعة‭ ‬ضحى‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬جئت‭ ‬بهذا‭ ‬الليل‭ ‬كحلاً‭ ‬لعينيكِ،‭ ‬وبحمرة‭ ‬الشفق‭ ‬وردًا‭ ‬إلى‭ ‬خديكِ،‭ ‬وبنور‭ ‬السماء‭ ‬فطوراً‭ ‬لروحكِ،‭ ‬أيتها‭ ‬المتدفقة‭ ‬خصباً‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬الحياة‭. ‬ثم‭ ‬أحملُ‭ ‬خطواتي‭ ‬إلى‭ ‬حقول‭ ‬الحنَّاء‭ ‬المزدانة‭ ‬أرضها‭ ‬بمروج‭ ‬الملح‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنَّها‭ ‬قمر‭ ‬ساحَ‭ ‬بياضه‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الفاو؛‭ ‬وأقف‭ ‬واجماً‭ ‬أمام‭ ‬خوذة‭ ‬جندي‭ ‬أزهر‭ ‬في‭ ‬جراحها‭ ‬النعناع،‭ ‬خوذة‭ ‬ثقبتها‭ ‬الشظايا‭ ‬ربما‭ ‬شاركني‭ ‬شهيدها‭ ‬الملجأ‭ ‬ذات‭ ‬حرب،‭ ‬وأصيخُ‭ ‬السمع‭ ‬لأنين‭ ‬ناي‭ ‬قصبي‭ ‬يعزفهُ‭ ‬صيَّاد‭ ‬يمخر‭ ‬عباب‭ ‬الأهوار‭ ‬بمشحوفٍ‭ ‬مثل‭ ‬حوتٍ‭ ‬زنجي‭ ‬يلتهمُ‭ ‬سحر‭ ‬الماء‭ ‬الأخضر،‭ ‬أجمعُ‭ ‬فتات‭ ‬الخبز‭ ‬من‭ ‬أزقَّة‭ ‬البصرة‭ ‬القديمة‭ ‬وأطعمهُ‭ ‬لنوارس‭ ‬كأنَّها‭ ‬نديف‭ ‬قطن‭ ‬ترفرفُ‭ ‬حولَ‭ ‬نصب‭ ‬السياب،‭ ‬وأقفُ‭ ‬مندهشا‭ ‬أمام‭ ‬إيشان‭ ‬من‭ ‬اللهب‭ ‬يسطع‭ ‬في‭ ‬تخوم‭ ‬بعيدة‭ ‬من‭ ‬مملكة‭ ‬إحفيِّظ‭ ‬في‭ ‬هور‭ ‬الصحين،‭ ‬يا‭ ‬لسحر‭ ‬‮«‬روجات‮»‬‭ ‬المشرَّح‭ ‬والقطا‭ ‬ورائحة‭ ‬تنانير‭ ‬العمارة‭ ‬ساعة‭ ‬غروب،‭ ‬وأوَّاهُ‭ ‬على‭ ‬الجنود‭ ‬الذين‭ ‬غادروا‭ ‬بيوتات‭ ‬الطين‭ ‬إلى‭ ‬الحرب‭ ‬ومازالت‭ ‬أسراب‭ ‬الحمام‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الناصرية‭ ‬تترقب‭ ‬عودتهم،‭ ‬نخل‭ ‬السماوة‭ ‬بلا‭ ‬سماوات،‭ ‬صدقت‭ ‬يا‭ ‬سعدي‭ ‬يوسف،‭ ‬أوَّاهُ‭ ‬على‭ ‬أسماك‭ ‬سدَّة‭ ‬الكوت‭ ‬المذبوحة‭ ‬غدراً‭ ‬على‭ ‬موائد‭ ‬المنطقة‭ ‬الخضراء،‭ ‬مضائف‭ ‬الديوانية‭ ‬بلا‭ ‬ضيوف‭ ‬وقهوتها‭ ‬باردة‭ ‬بعد‭ ‬غياب‭ ‬گزار‭ ‬حنتوش،‭ ‬ودرّ‭ ‬النجف‭ ‬سرقته‭ ‬بلاد‭ ‬فارس،‭ ‬لماذا‭ ‬يحدث‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يا‭ ‬شارع‭ ‬الطوسي؟‭ ‬وحلاوة‭ ‬الدهين‭ ‬مذاقها‭ ‬العلقم‭ ‬بفم‭ ‬الزائرين،‭ ‬نهر‭ ‬الحسينة‭ ‬في‭ ‬كربلاء‭ ‬ما‭ ‬عادَ‭ ‬يرتوي‭ ‬منهُ‭ ‬عابر‭ ‬السبيل‭ ‬وحمام‭ ‬الحضرة‭ ‬صار‭ ‬يهدل‭ ‬بلغة‭ ‬فارسية؛‭ ‬لماذا‭ ‬يا‭ ‬شارع‭ ‬العباس‭ ‬يحدث‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬وتل‭ ‬الزينبية‭ ‬بلا‭ ‬زينب‭ ‬وسبع‭ ‬الحسين،‭ ‬أوَّاهُ‭ ‬على‭ ‬فواخت‭ ‬الحلَّة‭ ‬التي‭ ‬تنوح‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬الجنائن‭ ‬المعلقة،‭ ‬ويا‭ ‬لحزن‭ ‬بلابل‭ ‬بساتين‭ ‬بُهرز‭ ‬على‭ ‬ضحايا‭ ‬الإرهاب،‭ ‬وبرتقال‭ ‬بعقوبة‭ ‬ازداد‭ ‬شحوباً‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬نضجه‭ ‬إنَّما‭ ‬خوفاً‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬خريسان‭ ‬من‭ ‬الجفاف،‭ ‬جسر‭ ‬الطبقجلي‭ ‬في‭ ‬كركوك‭ ‬تهشَّمتْ‭ ‬أضلاعه‭ ‬وتسجيلات‭ ‬دار‭ ‬الألحان‭ ‬تعزف‭ ‬موسيقى‭ ‬جنائزية‭ ‬على‭ ‬قبر‭ ‬جان‭ ‬دمو‭ ‬البعيد‭. ‬يا‭ ‬للأسى،‭ ‬سلال‭ ‬مدينة‭ ‬بلد‭ ‬بلا‭ ‬ثمار‭ ‬ومنائر‭ ‬سامراء‭ ‬مازالت‭ ‬تنزف‭ ‬دمعاً‭ ‬على‭ ‬الدم‭ ‬الطهور‭ ‬الذي‭ ‬تدفق‭ ‬نوافير‭ ‬جلنار‭ ‬من‭ ‬جراح‭ ‬أطوار‭ ‬بهجت،‭ ‬وخيول‭ ‬تكريت‭ ‬المطهَّمة‭ ‬بالعقيق‭ ‬شاختْ‭ ‬وربضتْ‭ ‬على‭ ‬صهواتها‭ ‬الأحزمة‭ ‬الناسفة،‭ ‬ونواعير‭ ‬راوه‭ ‬أتعبها‭ ‬الظمأ‭ ‬وهربت‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬نوري‭ ‬الراوي‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الماء‭ ‬ومآذن‭ ‬الفلوجة‭ ‬لما‭ ‬تزل‭ ‬ترشح‭ ‬دماً‭ ‬وشظايا‭ ‬على‭ ‬الكروم‭ ‬المحترق‭ ‬في‭ ‬بساتين‭ ‬حديثة،‭ ‬وحمَّام‭ ‬العليل‭ ‬أمسى‭ ‬عليلاً‭ ‬على‭ ‬منارة‭ ‬الحدباء‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬أثراً‭ ‬بعد‭ ‬عين،‭ ‬وصوت‭ ‬مؤذن‭ ‬جامع‭ ‬النبي‭ ‬يونس‭ ‬مشروخاً‭ ‬بالندم‭ ‬على‭ ‬عربة‭ ‬آشور‭ ‬المهشَّمة‭ ‬في‭ ‬غابات‭ ‬الحدباء،‭ ‬العذراء‭ ‬تنوح‭ ‬والصليب‭ ‬ضرَّجتهُ‭ ‬العبرات‭ ‬حين‭ ‬أصبحت‭ ‬قرقوش‭ ‬غابة‭ ‬نار‭ ‬تضطرم‭ ‬في‭ ‬فستان‭ ‬العروس‭ ‬وأجساد‭ ‬أهاليها‭ ‬الطيبين‭. ‬وكنيسة‭ ‬ساره‭ ‬زحف‭ ‬على‭ ‬صلبانها‭ ‬الظلام،‭ ‬قلعة‭ ‬أربيل‭ ‬استعمرتها‭ ‬العناكب‭ ‬والخفافيش‭ ‬الغريبة‭ ‬بعد‭ ‬اغتيال‭ ‬الفتى‭ ‬الكردي‭ ‬سردشت‭ ‬عثمان،‭ ‬وشلالات‭ ‬بيخال‭ ‬بلا‭ ‬هدير،‭ ‬وأنتِ‭ ‬أيتها‭ ‬السليمانية‭ ‬موحشة‭ ‬جبالك؛‭ ‬فلا‭ ‬غناء‭ ‬لطائر‭ ‬القبچ‭ ‬وطاقياتْ‭ ‬الثلج‭ ‬انصهرتْ‭ ‬قبل‭ ‬مجيء‭ ‬نوروز،‭ ‬الجسر‭ ‬العباسي‭ ‬في‭ ‬دهوك‭ ‬ما‭ ‬عادت‭ ‬زهور‭ ‬النرجس‭ ‬تنبت‭ ‬في‭ ‬عروقه،‭ ‬والدبكات‭ ‬الكردية‭ ‬بلا‭ ‬مزامير‭ ‬وطبول،‭ ‬أمَّا‭ ‬أنت‭ ‬أيتها‭ ‬المنهوبة‭ ‬يا‭ ‬بغداد،‭ ‬مسرَّفات‭ ‬الغزاة‭ ‬شوهت‭ ‬وجهك‭ ‬البتول،‭ ‬ولصوص‭ ‬كهرمانة‭ ‬أصبحوا‭ ‬يطالبون‭ ‬بحق‭ ‬المظلوم‭ ‬تحت‭ ‬قُبَّة‭ ‬البرلمان،‭ ‬أبو‭ ‬نؤاس‭ ‬استبدلوا‭ ‬نديم‭ ‬كأسه‭ ‬بالزعاف،‭ ‬وتحت‭ ‬نصب‭ ‬الحرية‭ ‬قيَّدوا‭ ‬بسلاسل‭ ‬إزميل‭ ‬جواد‭ ‬سليم،‭ ‬وحمامة‭ ‬فائق‭ ‬حسن‭ ‬نُحرتْ‭ ‬مرَّة‭ ‬أخرى‭ ‬بسكين‭ ‬الطائفية،‭ ‬وشارع‭ ‬المتنبي‭ ‬أحرقَ‭ ‬الظلاميون‭ ‬عيون‭ ‬كتبه،‭ ‬لأنهم‭ ‬يشعرون‭ ‬بالرعب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬كتاب‭ ‬يشعُّ‭ ‬من‭ ‬سطوره‭ ‬النور،‭ ‬وازدهرت‭ ‬في‭ ‬السراديب‭ ‬كتب‭ ‬السحر‭ ‬والطلاسم،‭ ‬أيها‭ ‬الوطن‭ ‬العجيب،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬صحيفة‭ ‬وفضائية‭ ‬تحتج‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬على‭ ‬الظلم‭ ‬والظلام‭ ‬الذي‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬الناس؛‭ ‬والمنطقة‭ ‬الخضراء‭ ‬منشغلة‭ ‬بالنهب‭ ‬والسلب‭ ‬وتدمير‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جميل،‭ ‬المنطقة‭ ‬الطرشاء‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تجيد‭ ‬سوى‭ ‬الوعود‭ ‬الخُلَّبْ‭ ‬وبناء‭ ‬أعشاش‭ ‬العناكب‭ ‬والخفافيش‭ ‬في‭ ‬جراح‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬تنزف‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب‭.. ‬ألمْ‭ ‬أقلْ‭ ‬لكم‭ ‬أني‭ ‬سأتغزَّلُ‭ ‬بأرض‭ ‬النحيب‭ ‬بحرية‭ ‬وبجنون،‭ ‬وأردِّدُ‭ ‬ما‭ ‬قالهُ‭ ‬السيَّاب‭: ‬أنّي‭ ‬لأعجب‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أنْ‭ ‬يخون‭ ‬الخائنون؟‭ ‬أيتها‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬أصبحتْ‭ ‬بلا‭ ‬وطن؛‭ ‬وصدق‭ ‬مظفَّر‭ ‬النوَّاب‭ ‬حين‭ ‬صدح‭ ‬في‭ ‬أصقاع‭ ‬الغربة‭ ‬وبنبرةٍ‭ ‬مكلومةٍ‭ ‬أبكتْ‭ ‬نجوم‭ ‬السماء‭: ‬نحنُ‭ ‬الاثنان‭ ‬بلا‭ ‬وطن‭ ‬يا‭ ‬وطني‭.‬

 


مشاهدات 800
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2023/10/09 - 4:50 PM
آخر تحديث 2024/07/15 - 10:59 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 277 الشهر 7845 الكلي 9369917
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير