الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ويسألونكَ‭ ‬عن‭ ‬الطقس

بواسطة azzaman

ويسألونكَ‭ ‬عن‭ ‬الطقس

حسن النواب

 

حرٌّ‭ ‬لا‭ ‬يطاق‭ ‬حاصر‭ ‬مدينة‭ ‬بيرث‭ ‬الأسترالية‭ ‬منذ‭ ‬أيام،‭ ‬وعرق‭ ‬يتصبَّبُ‭ ‬من‭ ‬الوجوه‭ ‬الشوارع‭ ‬مقفرة‭ ‬والمتاجر‭ ‬مغلقة‭ ‬بسبب‭ ‬موجة‭ ‬الحر‭ ‬القاسية‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬ازدحمت‭ ‬شواطئ‭ ‬المحيط‭ ‬الهندي‭ ‬بحشود‭ ‬الناس‭ ‬شبه‭ ‬عراة‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬جحيم‭ ‬القيظ‭. ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬الطقس‭ ‬انقلبَ‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقبٍ‭ ‬ليلة‭ ‬أمس‭ ‬وباتَ‭ ‬الجميع‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬الأغطية‭ ‬الصوفية‭ ‬تجنباً‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬اللعين‭ ‬الذي‭ ‬باغت‭ ‬موسم‭ ‬الصيف‭ ‬فجأة؛‭ ‬طقسٌ‭ ‬مزاجي‭ ‬ومعتوه‭ ‬حدَّ‭ ‬القرف‭ ‬يلعب‭ ‬على‭ ‬عقولنا‭ ‬ويقضُّ‭ ‬مضاجعنا‭ ‬بالقلق‭ ‬والحيرة‭. ‬توقعات‭ ‬الأنواء‭ ‬الجوية‭ ‬التي‭ ‬اتَّسمتْ‭ ‬بدقتها‭ ‬في‭ ‬أخبار‭ ‬نشرتها‭ ‬اليومية‭ ‬خدعها‭ ‬الطقس‭ ‬بجدارةٍ‭ ‬هذه‭ ‬المرَّة؛‭ ‬حتى‭ ‬أصبحنا‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬من‭ ‬أمرنا،‭ ‬هل‭ ‬نرتدي‭ ‬الملابس‭ ‬الصيفية‭ ‬أمْ‭ ‬الشتوية‭ ‬ونحنُ‭ ‬نذهب‭ ‬إلى‭ ‬أعمالنا؟‭ ‬ليلة‭ ‬أمس‭ ‬أشعلنا‭ ‬المدافئ‭ ‬ناشدين‭ ‬الدفء،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬ساعتين‭ ‬أفقنا‭ ‬والعرق‭ ‬يغزو‭ ‬جلودنا؛‭ ‬لقدْ‭ ‬ارتفعتْ‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬بشكل‭ ‬مريع‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرَّة؛‭ ‬هربنا‭ ‬بجلودنا‭ ‬إلى‭ ‬الحديقة‭ ‬لحين‭ ‬اكتساب‭ ‬المنزل‭ ‬لبرودةٍ‭ ‬مناسبةٍ‭ ‬من‭ ‬مكيفات‭ ‬الهواء‭. ‬عند‭ ‬الصباح‭ ‬لمحتُ‭ ‬امرأة‭ ‬آسيوية‭ ‬تتبضَّعُ‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الفواكه‭ ‬والخضراوات‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬مظلَّة‭ ‬المطر‭ ‬بيدها‭ ‬اليمنى‭ ‬ومروحة‭ ‬القش‭ ‬في‭ ‬يدها‭ ‬اليسرى‭. ‬أخذني‭ ‬مزاج‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭ ‬الغريب‭ ‬إلى‭ ‬ذكرياتٍ‭ ‬ماضيةٍ‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬المرارة‭ ‬ومن‭ ‬المتعة‭ ‬أيضاً،‭ ‬إذْ‭ ‬أتذكر‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬عندما‭ ‬يصل‭ ‬البرد‭ ‬إلى‭ ‬ذروته‭ ‬بفصل‭ ‬الشتاء‭ ‬وتحديداً‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬شهر‭ ‬شباط؛‭ ‬كان‭ ‬يُطلق‭ ‬على‭ ‬موجة‭ ‬البرد‭ ‬القارصة‭ ‬تلك‭ ‬‭”‬برد‭ ‬العجوز‭”‬،‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬حالما‭ ‬تنتهي‭ ‬من‭ ‬انتزاع‭ ‬آخر‭ ‬رغيف‭ ‬خبز‭ ‬ناضج‭ ‬من‭ ‬التنور‭ ‬الطيني؛‭ ‬تجمع‭ ‬الجمر‭ ‬المتبقي‭ ‬في‭ “‬منقلة‭” ‬وهي‭ ‬صفيحة‭ ‬معدنية‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬حوض‭ ‬مستطيل،‭ ‬وتحملها‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬المعيشة‭ ‬حيث‭ ‬نتجمَّع‭ ‬نحن‭ ‬أطفالها‭ ‬السبعة‭ ‬مثل‭ ‬صيصانٍ‭ ‬حول‭ ‬لهب‭ ‬الجمر‭ ‬ناشدين‭ ‬الدفء؛‭ ‬بينما‭ ‬إبريق‭ ‬الشاي‭ ‬المعدني‭ ‬يطلق‭ ‬بخاراً‭ ‬ساخناً‭ ‬وصفيراً‭ ‬من‭ ‬أنفه‭ ‬المعقوف؛‭ ‬كانت‭ ‬متعة‭ ‬ما‭ ‬بعدها‭ ‬متعة‭ ‬حين‭ ‬نتناول‭ ‬الشاي‭ ‬مع‭ ‬الخبز‭ ‬الحار‭ ‬كوجبة‭ ‬تمهيدية‭ ‬قبل‭ ‬موعد‭ ‬العشاء‭ ‬الذي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬رز‭ ‬العنبر‭ ‬مع‭ ‬الدبس‭. ‬مثلما‭ ‬أتذكر‭ ‬عندما‭ ‬يأخذني‭ ‬أبي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬معهُ‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬الماء‭ ‬والكهرباء‭ ‬في‭ ‬نوبته‭ ‬الليلية،‭ ‬ويدعني‭ ‬استحم‭ ‬تحت‭ ‬شلال‭ ‬الماء‭ ‬الدافئ‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬أحواض‭ ‬ماء‭ ‬مكائن‭ ‬الديزل‭ ‬العملاقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجهز‭ ‬المدينة‭ ‬بالطاقة‭ ‬الكهربائية،‭ ‬ثمَّ‭ ‬يفرش‭ ‬لي‭ ‬بطانية‭ ‬بجوار‭ ‬إحدى‭ ‬مكائن‭ ‬الديزل‭ ‬لأغفو‭ ‬على‭ ‬صخبها‭ ‬خلال‭ ‬دقائق‭. ‬كنتُ‭ ‬ومازلتُ‭ ‬أنام‭ ‬بعمقٍ‭ ‬على‭ ‬هدير‭ ‬مكائن‭ ‬الديزل،‭ ‬مثلما‭ ‬اشعر‭ ‬بالاسترخاء‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬اشتعال‭ ‬الموقد‭ ‬النفطي‭. ‬وحين‭ ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬الحرب‭ ‬كنتُ‭ ‬أكابد‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬القاسي‭ ‬في‭ ‬الخنادق‭ ‬الرطبة،‭ ‬وكيف‭ ‬كان‭ ‬جسدي‭ ‬يرتجف‭ ‬بعنف‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬العرضات‭ ‬عند‭ ‬الفجر‭ ‬بالمعسكرات‭ ‬الخليفة‭. ‬وفي‭ ‬حديث‭ ‬جانبي‭ ‬مع‭ ‬زوجتي‭ ‬عن‭ ‬قسوة‭ ‬البرد‭ ‬أوصيتها‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬فارقت‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬الشتاء‭ ‬فليغسلوا‭ ‬جسدي‭ ‬بماءٍ‭ ‬دافئ،‭ ‬فاستغربتْ‭ ‬من‭ ‬وصيتي‭. ‬لعنة‭ ‬البرد‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تطارد‭ ‬إلا‭ ‬الفقراء‭ ‬والمعذبين‭ ‬والمشردين‭ ‬ذكّرتني‭ ‬بفنانٍ‭ ‬تشكيلي‭ ‬عثروا‭ ‬عليه‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭ ‬متجمداً‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬وعمره‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الثالثة‭ ‬والأربعين،‭ ‬لقد‭ ‬جاء‭ ‬الى‭ ‬مصر‭ ‬وأقام‭ ‬معرضا‭ ‬تشكيليا،‭ ‬وطابت‭ ‬له‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أم‭ ‬الدنيا‭ ‬فقرر‭ ‬الإقامة‭ ‬فيها،‭ ‬لكنَّ‭ ‬أوضاعه‭ ‬المالية‭ ‬تدهورت‭ ‬ولحقها‭ ‬تدهور‭ ‬حالته‭ ‬النفسية‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬يعينه‭ ‬على‭ ‬الإقامة‭ ‬فاتخذ‭ ‬من‭ ‬رصيف‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير‭ ‬مسكناً‭ ‬حتى‭ ‬أطبق‭ ‬البرد‭ ‬الوحشي‭ ‬على‭ ‬جسده‭ ‬الهزيل‭ ‬من‭ ‬الجوع‭ ‬والحرمان‭ ‬وأحاله‭ ‬إلى‭ ‬جثة‭ ‬متجمدة‭. ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬كارثة‭ ‬الذين‭ ‬نجوا‭ ‬من‭ ‬الزلزال‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬وتركيا‭ ‬ومأساة‭ ‬المهجرين‭ ‬في‭ ‬مخيمات‭ ‬شمال‭ ‬البلاد‭. ‬هؤلاء‭ ‬جميعهم‭ ‬كهولاً‭ ‬ورجالاً‭ ‬ونساءً‭ ‬وشبَّاناً‭ ‬وأطفالاً‭ ‬يكابدون‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬البرد‭ ‬والمطر؛‭ ‬وبين‭ ‬طقس‭ ‬الغربة‭ ‬المتقلّب‭ ‬وبرد‭ ‬الطفولة‭ ‬إلى‭ ‬زمهرير‭ ‬سواتر‭ ‬الحرب‭ ‬وشظف‭ ‬العيش‭ ‬الذي‭ ‬كتم‭ ‬على‭ ‬أنفاس‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬وأسى‭ ‬الذين‭ ‬يرزحون‭ ‬في‭ ‬المخيمات‭ ‬إثر‭ ‬الزلزال‭ ‬والتهجير‭. ‬مازال‭ ‬هناك‭ ‬بصيص‭ ‬ضوءٍ‭ ‬لحياةٍ‭ ‬هانئةٍ‭ ‬منتظرةٍ‭ ‬برغم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الفجائع‭ ‬والأسى‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬تحاصرنا‭ ‬بكروبها،‭ ‬ولعلَّ‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬سامي‭ ‬مهدي‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬على‭ ‬صفحته‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬تسعفني‭ ‬على‭ ‬ختام‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬حيث‭ ‬كتب‭: ‬وحيدينَ‭ ‬نلقى‭ ‬الحياة،‭ ‬وحيدين‭ ‬نشقى،‭ ‬وحيدين‭ ‬نبقى،‭ ‬وحيدين‭ ‬تنأى‭ ‬بنا‭ ‬هذه‭ ‬الطرقاتْ‭ ‬وتَكمُلُ‭ ‬دورتُنا‭ ‬في‭ ‬الفضاءْ‭ ‬ونتركُ‭ ‬من‭ ‬دمِنا‭ ‬شُهُباً‭ ‬في‭ ‬السماءْ‭…‬ونأسى‭ ‬وننسى‭ ‬ونخلعُ‭ ‬أسمالَنا‭ ‬ونصلّي‭ ‬عراة‭. ‬وحيدينَ‭ ‬يحضرُنا‭ ‬الموتُ،‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬الصَبَواتْ‭.‬

 


مشاهدات 821
أضيف 2023/03/20 - 6:27 PM
آخر تحديث 2024/07/18 - 1:57 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 330 الشهر 7898 الكلي 9369970
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير