(١)
ذات ظهيرة ممطرة زارني أخي زهير الأصغر مني عمراً الى كتيبة دبابات أشبيلية في قاطع الفكَّة، كان أخي مخابراً في مدفعية ذاتية الحركة تابعة إلى الفرقة الثالثة؛ شاءتْ المصادفة وما أكثرها في الحرب؛ أنْ تكون وحدته قريبة مني فجاءَ يتفقَّدني؛ استقبلتهُ بالأحضان؛ لكني هجستُ أنَّ احتضانهُ لي كان فاتراً؛ فاستغربت؛ بعد أنْ شرب الشاي مُستاءً؛ أخبرني وقدُ أطرق برأسهِ إلى أرضية الملجأ الخضلة:
- لم أتوَّقع منكَ أنْ تفعل ذلك؟
- خير؛ لقدْ أقلقتني؛ ما الذي فعلتهُ وأزعجك؟
بصعوبةٍ نطقَ العبارة:
- مو “عيب” تشتغل مراسلاً؟
- أنا!!
قال بنبرةٍ جريحةٍ:
- عندما سألت عن اسمك في باب سيطرة الكتيبة؛ أخبرني أحد الحراس تقصد المراسل حسن؟ فصمتتُ مرتبكاً؛ وإذا بالحارس يسألني هل هو أخوك؛ أجبتهُ مرتبكاً نعم هو أخي؛ قال بنبرةٍ هازئةٍ ليس هناك من جندي بالكتيبة لا يطلبهُ النقود.
ثار غضبي كأنَّ معركة دامية راحتْ تدور برأسي؛ صرختُ بهِ انهض معي؛ أخذته إلى مقر الكتيبة وهتفت على أحد الجنود:
- تعال إلى هتا.
أقبل الجندي يركض نحوي مثل فأرٍ مفزوعٍ.
سألتهُ: ما هو أسمك؟
أجاب مندهشاً:
- حسن
سألته: كم أطلبك؟
أجاب: عشرين ديناراً
- ومتى ترد الدين؟
- وروح أبي على الراتب القادم.
- ماهو عملك في الكتيبة؟
ضحك وأجاب:
- أنا مراسل من اليوم الذي دخلت به إلى الجيش.
هنا هزَّ أخي رأسهُ وسألهُ ساخطاً:
- ألم يجدوا أهلك غير اسم “حسن” يسمونكَ بهِ.
وانفجرَ أخي زهير يضحك بضراوةٍ..
* المراسل: جندي يقوم بالخدمة للآمر والضبَّاط.
(٢)
بعدَ أنْ صمتتْ المدافع، وحُسمتْ معركة “الفكَّه” في جبهة العمارة لصالحنا، توجَّبَ علينا إرسال موقف المعركة من حيث عدد الشهداء والجرحى وما نحتاجه من عتاد ووقود وأرزاق، كان ثمة جنود مشاة يستريحون بظلال دبابتي، بينما كان آمر الدبابة يرسل الموقف عبر جهاز لاسلكي:
- سيدي لا خسائر في دبابتي، لكننا بحاجة إلى الموز؟؟
عندما سمع جنود المشاة كلمة “موز” قفزوا من رقدتهم مُبتهجين،
قال أحدهم لرفاقهِ:
- “راح يوصل موز إلينا بمناسبة نصرنا في المعركة”.
المساكين لم يعرفوا أنَّ “الموز” هي مفردة مُشفَّرة تعني العتاد!!
(٣)
ذات ليلة في جبهة الحرب، دخل إلى ملجئنا المسؤول الحزبي لكتيبة دبابات أشبيلية؛ ليجرد البعثيين من المستقلين من جنود الرعيل، جلس قرب الفانوس وفتح دفتراً مستطيلاً وأخذ يردد بأسماء الرعيل المؤلف من ١٢ جنديَّاً؛ كان الجنود يجيبون تباعاً حين ينطقُ بأسمائهم بعثي مؤيد؛ أو بعثي نصير؛ وعندما نطق اسمي قلتُ بهدوء:
- مستقل؛
فسألني مرتاباً:
- لماذا؟
أجبتهُ بمكر:
- لم أجدْ منْ يكسبني لحزب البعث.
تساءلَ بريبةٍ:
- معقولة؛ وأنت خريج معهد؟
أجبتهُ بإصرارٍ:
- كنتُ مريضاً طيلة دراستي.
- ماهو مرضك؟
- فوبيا
- ماذا؟
شعر بالحرج لأنه لم يسمع بهذا المرض من قبل؛ فأهملني، وحين ردَّدَ اسم ظلال وهو جندي متطوع من أهالي الناصرية؛ أجابهُ ظلال بحماس:
- رفيقي أنا بعثي.
سألهُ المسؤول الحزبي:
- ماهي درجتكَ الحزبية؟
فأجاب الجندي ظلال بثقةٍ مطلقة:
- مؤيد متقدِّم!!
انفجر جنود الرعيل بالضحك ومعنا المسؤول الحزبي البليد.
(٤)
في آخر يوم من إجازتي، تحرصُ أمي أنْ تضع في حقيبتي “الكليچه”؛ ذات إجازة ملأتُ حقيبتي بالكتب التي أقرأها في جبهة الحرب؛ فلمْ تجدْ مُتَّسعاً فيها؛ سارعت إلى خياطة كيس قماش على وجه السرعة لتضع فيه”الكليچة” وحملتهُ بيدي بينما كانت الحقيبة محمولة على كتفي؛ كنتُ ثملاً للغاية حين صعدتُ إلى القطار الموغل بأحزانهِ نحو البصرة؛ لم أجدْ مقعداً للجلوس لزحمة الجنود الذاهبين إلى الموت؛ فصعدتُ على مسند أحد مقاعد الجنود لأثب إلى موضع الحقائب المشيَّد من قضبان الفولاذ، واستلقيتُ عليه، وضعتُ الحقيبة مع كيس ” الكليچة ” على صدري؛ عندما وصل القطار إلى محطة المعقل، سارعتُ بالنزول للالتحاق بعجلة ” الإيڤا” العائدة لكتيبة دبابات إشبيلية؛ عندما وصلت إلى الملجأ عند التاسعة صباحاً؛ كنتُ قد ْ استعدتُ رشدي، وشعرتُ بجوع قاسٍ، فانتشلتُ كيس ” الكليچة ” لالتهم قطعة منهُ؛ مددت يدي فخرجت من الجهة الأخرى للكيس؛ كان الكيس فارغاً وقد انفرطت الكليچة إلى بطون آخرين؛ المسكينة أمي أخاطت حواف الكيس على عجل ويبدو خلال تنقلي العسير تسرَّبت ” الكليچة ” إلى جنود جوعى مثلي؛ هنيئاً لهم.
حسن النواب