باسم حمودي ينفخ في أرواح الباشا وفيصل والزعيم
مواجهة ساخنة مسرحها اليوم الآخر
احمد عبد المجيد
يقدم لنا الناقد الكبير باسم عبد الحميد حمودي المثل على ارتباط المبدع بالقلم والنأي بنفسه عن ترك مهنة الكتابة تحت ضغط الظروف الصعبة والانواء العاتية. ويدعونا حمودي ، كل يوم ، الى تذكر طاقة التحمل التي ينوء بها، ممسكاً بالورقة والقلم ليسطر انجازاً او يروي قصة أو يقوّم كتاباً جديداً لمؤلف. وأخر ما اتحف المكتبة العراقية والعربية به، صدور روايته (الباشا وفيصل والزعيم) عن دار دجلة في عمان ، مستعيداً حقبة ملتهبة وصاخبة ودموية من تاريخ العراق تمتد لعقدين طويلين، وتداعيات ولدت عنهما امتدت لعقدين لاحقين.ويسرد حمودي في روايته التي تندرج تحت نمط السرد التاريخي، مسارات الثورة التي اطاحت بالحكم الملكي في العراق والمأساة التي رافقتها وتمثلت بقتل العائلة المالكة في قصر الرحاب، وما اعقبها من صراعات قادة الثورة، الضباط العسكريين، للهيمنة على مقاليد الحكم والنزاعات السياسية التي عطلت برنامج الثورة وأغرقتها في بحيرات الوجع. ويستثمر حمودي جهل المؤرخين بالشخص الذي اوعز بقتل العائلة المالكة، في سرد الحكاية التي شغلت الشعب العراقي والعالم ومازالت مدار الحديث في كل حدث يحدث على وصف الاديب مؤيد داود البصام الذي كتب مقدمة الرواية. وفي سابقة تقنية في مجال السرد يعتمد حمودي فرضية خلق مواجهة بين اركان الحكمين، الملكي والجمهوري، مسرحها اليوم الآخر، أي ان روايته (آخروية) بمنطق دنيوي ، مستعيداً الاحداث وما يتصل بها لادانة او تبرئة المتهمين وكشف الادلة الثبوتية بالاعتماد على شهود بينهم سفراء اجانب ومؤرخين كعبد الرزاق الحسني وحنا بطاطو. انه يؤكد ان الجرائم مثل الانجازات الانسانية والقيم الروحية الكبرى لاتتلاشى أو تسقط بالتقادم، وان المتهمين والشهود يصح استدعاؤهم الى محكمة التاريخ حتى لو كانت عظامهم رميماً. وبذلك فحمودي يعطي درساً اخلاقياً للحكام والمحكومين لاغنى عنه، بل ويدعو الى الحذر من الظلم وارتكاب الخطايا والاخطاء ضد الشعوب والاوطان خلال فرص تولي الحكم وزوال السلطان . ولعله ينوي تذكيرنا ، عبر اسلوبه المتسم بالسهل الممتع ان الدنيا يومان (يوم لك ويوم عليك)، وان ما يصاحبها من ألم وجور أو غرور وطغيان ، يؤول جميعه الى التاريخ ، بوصفه الميزان الفصل والحكم العادل .
قصة حقيقية
ان حمودي امتلك القدرة على تغييب القصة الحقيقية التي استندت اليها الرواية واضفى روحاً من الخيال الجامح على تسلل الموضوعات بهدف شد الحبكة ليوهمنا بعدم الاحاطة الكاملة بالتفاصيل مما يحفزنا على المشاركة بهذه اللعبة. وتتميز رواية حمودي ليس بالتكثيف (يبلغ عدد صفحاتها 102)? من حيث الحوادث والوقائع حسب، بل بالذكاء في التقاط الأبرز والادق منها، مثلما تشير الى قدرة كاتب بارع على تقمص دور قاض يعالج اتهامات متقابلة، ازاء حوادث صارت في رحم الغيب وامكن استحضارها بالوثيقة والانصاف ودقة الحجة . لقد ابهرنا حمودي بهذا المنجز (التاريخسردي) او (الافتراضقانوني)، وهو يعتزل بعد رحلة ادبية مفعمة بالانجازات النقدية وحافلة بالرؤى والشخصيات المخضرمة. لقد رسم حمودي قاعة المرافعة ووفر اجواء المقاضاة لجميع الذين تمت استعادتهم من العالم الآخر سواء كانوا مودعين في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين أو في جهنم التي وقودها الناس والحجارة، وترك لهم حرية الرد والاعتراض والتعليق والرفض وبيان الموقف ، منطلقاً من حقيقة ان لكل متهم ولكل بريء حجة، وان الباري الخالق هو المخوّل الوحيد باصدار الحكم في قضية ملتبسة ستظل مدار بحث وتقص ومراجعة الى يوم يبعثون ، لكن حمودي لا ينفك يبقينا في الحاضر تحت سماء الواقع، مفضلاً ان تكون خاتمة الرواية تحت بوابة فندق بابل كرمزية دنيوية من جهة وحضارية من جهة آخرى، شهدت قبل الميلاد حكم ملوك ومرت من تحت اسوار المدينة الاثرية جيوش ومكثت اقوام .. وبادت. انها ليس رواية نموذجية عن الماضي او الحقبة المشحونة بالنجاح والاخفاق والمخاضات، إلا انها بمثابة رواية مارس فيها حمودي تطهيراً نفسياً بالنيابة عن ملايين العراقيين الذين راجعوا أنفسهم ومواقفهم وأحسوا بفداحة الجرائم التي ارتكبت تحت مسميات وعناوين ولافتات ايديولوجية ومجتمعية تختفي منها الرحمة والتسامح وتسودها الضغينة والانفلات والموت.
وقد وصفها حمودي بهذه الطريقة في الرواية على لسان بعض الشخوص. وارى ان رواية (الباشا وفيصل والزعيم) تكمل طريقاً اكاديمياً وبحثياً شرع بالسير عليه عشرات الباحثين عن الحقيقة، بمن فيهم صحفيون وادباء ، انها طريقة مبتكرة في فضاء الرواية العراقية تعكس اتجاهاً ليس جديداً بالمرة ، لكنه معزز للحكايات المكثفة في النظر الى الواقع وتقويمه من جديد وعرضه للجمهور بسرد شيق.
ولعل هذا المنعطف التأليفي يترجم المزاج الابداعي لحمودي المنطلق من النقد الى فضاء التراث الشعبي ، الى التاريخ ثم السرد ، وهو ما يحاكي بالمجمل تلك التبدلات الحاسمة في الحياة العامة لبلد صاخب وملتهب كالعراق.