صراع الكبار يقتل السلام والأمل
لويس إقليمس
من دون شك، أية مغامرة تقوم بها أقطاب الصراع الروسي-الغربي سوف يكون لها تداعيات دولية خطيرة غير محسوبة النتائج، نظرًا لما قد تفرضه من واقع سياسيّ مضطرب وآخر اقتصادي سيكون حتمًا كارثيًا وبدرجة قياسية. هذا إذا أضفنا إليهما ثالثهما وهو يتعلق بمصير حياة شعوب وجغرافية بلدانهم في حالة فقدان السيطرة على جماح الأطراف المتصارعة وهيجانها كالثيران التي تفقد السيطرة على حركتها وأدائها وسلوكها. كلُّ الدلائل البادية للعيان على الساحة السياسية الدولية تشير إلى أن أيّ صراع بين الأقطاب المتصارعة على الساحة الأوكرانية حاليًا، المعلنة منها والخفية، ليس الخيار الأصوب والأقرب لحل الإشكالية في تهدئة موازين القوى وركونها إلى العقل والحكمة في حلّ الخلافات التي تحولت إلى مسألة حياة ووجود أم موت واختفاء من الخارطة. هناك مَن يرى أنّ أميركا تسعى لدوّامة سعير الحرب بين غريمها الروسي الذي استعاد استقطابه السياسي مع حلفاء اكتسبوا درجة المنافسة الاقتصادية وبجدارة متمثلاً خاصةً بقدرات التنين الصيني المتفاقمة والمتصاعدة بهدوءٍ ورويّة سنة بعد أخرى. ولعلَّ السبب في سعي العم سام وحزبيه التقليديين لإدامة وتمويل هذه الحرب “الخاسرة” في نظر البعض، إبعاد شبح الحروب عن أراضيها ومصالحها، ناهيك عن المنافع الاقتصادية الواردة من بيع مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة التي تعمل على تشغيل ماكنة الصناعة الحربية الأمريكية والغربية أيضًا. فيما تشير تقارير وافدة من مراكز التجارة التسليحية بارتباط أرباح هذه الشركات والمصانع بشخصيات مقربة من مسؤولين سياسيين وتشريعيين أو بزعامات حزبية وتجار حروب مرتبطين بأقطاب الإدارة الأمريكية. والجميع يعلم أنّ أفضل استثمار في عالم اليوم المتخبط الذي لا يعرف الضمير ولا يعترف بأدوات الرحمة والإنسانية والسلام يقترن بتجارة الأسلحة وما يوازيها في تجارة المخدرات والممنوعات التي تدرّ الملايين بل المليارات لبعض الجهات المنتفعة من الإرباك الراهن، سواءً في منطقة اليورو خاصة أو في مناطق لها دلالات تشاركية فيما يجري دوليًا، وإغفالها الكمّ الهائل من المآسي وأشكال الدمار في حياة البشر والبنى التحتية الأساسية وسائر الخدمات التي تظهرها شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي المنقولة مباشرة من مواقع الصراع الدامي المدمّر في أوكرانيا. صحيح أنّ أوربا لم يدر في خلدها يومًا الانزلاق نحو حربٍ طويلة الأمد مع الدب الروسي الذي اعتمدت على شبه كامل توريداتها منه من مستلزمات الطاقة من عنصر الغاز عبر اتفاقات بينيّة ودولية معروفة. لكنّ واقع الحال يشير إلى تورطها المباشر أو غير المباشر في هذا الصراع الدامي بين الإخوة في الدّين والأرض والجيرة عبر إدامة تسليح المعتدى عليه خشيةً من تمدّد الدب الروسي نحو أراضي دول الناتو، أو هكذا يدّعون! فكلّ شيء يبدو اليوم محسوبًا في كفة الميزان الدولي، طالما تمادى سيّد الكرملين في تهديداته لدول الحلف وفي رصد كلّ حركة أو سلوك يبدرُ من دول الجيرة الأخرى في سعيها للانضمام إلى هذا الحلف، ليس لشيء إنّما نكاية بطموحات بوتين العابرة للأحلام والمتفائلة لحدّ بلوغ هذه الطموحات بجرّة قلم أو إصدار أمرٍ عسكري لجنرالاته المطيعين الصاغرين. وما كان يُخشى منه قد حصل فعلاً حينما قطع بوتين شريان الطاقة بصورة شبه نهائية عن شركائه الأوربيين مؤخرًا. وعليهم أن يدركوا أيضًا أنّ رجل المخابرات المتمرّس سيظلُّ مسلّطًا سيفه ومكشّرًا أسنانه ليكون بمثابة مصدر قلق دائمٍ للسياسات الغربية وتبعيتها لأمريكا المستكبرة. وعلى إثرها، بدت تباشير حالة صاعدة من الركود الاقتصادي والتضخم بسبب النقص الحاصل في الصناعة ولاسيّما الغذائية والتحويلية منها نتيجة للنقص في توريد الغاز والكهرباء. أي أنَّ أزمةً اقتصادية محتملة أشدّ قساوة في طريقها إلى المحفل الدولي لا محالة. وإنّ أكثر الدول تضرّرًا ستكون تلك التي لم تتهيّأ لمثل هذه الظروف القاسية، ومنها العراق بالرغم من الوفرة المالية الحاصلة لديه نتيجة لارتفاع أسعار النفط العالميًة. فأية زيادة تحصل في الموارد الريعية في هذا البلد التائه في مجاهيل السياسة ليست من صالح البلاد والشعب بسبب سوء الإدارة وتكالب لصوص السياسة على سرقة المال العام وهدر أمول الدولة بشتى الوسائل والسبل والفنون.
الحكمة في السلوك والرابح مَن يرقص
في النهاية
لهذه الأسباب وغيرها، يصوّبُ العقلاء في دول حلف الناتو جلّ تقريرهم بضرورة تجنّب التصعيد وعدم الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة قد تكون نتائجُها كارثية على الجميع، حربٍ ستأكل الأخضر واليابس كما هي حال الأراضي والمدن التي اجتاحتها القوات الروسية في أوكرانيا الصامدة بوجه الظلم وما آلت إليه من خرابٍ ودمارٍ وبورٍ في البناء وخدمات البنية التحتية ومن تدمير للاقتصاد والصناعة والزراعة وغيرها من ألوان الحياة. من هنا، تصاعدت الأصوات للتهدئة والتوجه نحو إيجاد أفضل السبل لإنهاء الخيار العسكري عبر الحوار والوساطات التي تتزين بالحكمة والعقلانية وتعرف قيم الرحمة والإنسانية في التعامل مع المشاكل بين الإخوة في القارة الواحدة والعالم الهائج. فأيُّ صراعٍ مفتوح بين الإخوة الأعداء لن يكون في صالح أيّ طرفٍ. بل المستفيد الأول والأكبر سيكون الطرف البعيد عن الصراع جغرافيًا والذي يسعى لإدامة سعير المعارك بتزويد الضحية المحتلّة بأدوات عسكرية تصنعها ماكنة هذه الدولة الاستكبارية التي لم يرق لها صعود قطبٍ سياسيٍّ غيرها منافسٍ لها في إدارة الساحة الدولية حسب هواها ورهن إشارتها.لقد برزت على الساحة السياسية الدولية أفكارٌ وآراءٌ وتعالت أصواتٌ تطالبُ وتنادي باحتواء الصراع الروسي-الأوكراني بأي ثمنٍ خشية من الانزلاق نحو الأكثر كارثيًا على الدول والشعوب. كما بدأ النحس والتشاؤم يدبّان في أوساط الغرب المتورّط في هذه الحرب الخاسرة لطرفي النزاع والمتورطين به معًا من قريبٍ أو بعيدٍ، سيّما وأنّ المراقبين والسياسيين المحنّكين بدأوا يستقرئون المشهد وما في أطرافه وبين جوانبه من تحوّل الصراع إلى حرب استنزاف طويلة قاتلة وظالمة. والخاسر الأكبر هم البشر الأبرياء الذين سيذهبون ضحايا همجية أطراف الصراع وملايين البشر النازحين والمهجّرين وآلاف الثكالى والأرامل وأطفال سيجعلُهم اليُتم والحرمان من الأب أو الأم أو الأهل أو الأصدقاء في مجاهيل الحياة وأسرى متطلبات الحياة القاسية بأي ثمنٍ فيما لو لم يتمّ تدارك الكارثة قبل فوات الأوان. هذا إضافة إلى الدمار في الأرض والحرث والغذاء والصناعة والزراعة والاقتصاد وما يتبعها من مآسي وقساوة الحياة ومشاكل الاغتراب. من هنا تتطلع الأنظار إلى قمة مدريد القادمة التي من المتوقع انعقادُها يوم 29 و 30 حزيران الجاري 2022 لتدارك الكارثة والاستعداد للأسوأ في حالة الفشل في إيجاد مخرج للنزاع الدامي والمدمّر للمنطقة التي تُعدّ أكثر استعدادًا لاحترام الحياة البشرية وعيش مفاهيم الديمقراطية الصحيحة بكل جوانبها وتسعى لاحتواء الشرّ ومفاعيله. وما على دول الغرب إلاّ تبريد فتيل النزاع بأيّ ثمن وعدم الانجرار إلى استفزاز الدب الروسي الهائج منذ أشهر بالتصعيد بتشكيل تحالفات إضافية لإشعال نيران النزاع المستعرة أكثر وأكثر، وبدلَ ذلك الذهاب في طريق التهدئة وخلق أجواء أكثر إيجابية تبني أسسًا جديدة وتخلق مساحات مشتركة للسلام والصلح والأمن العالمي في منطقة تُعدّ الأكثر أهمية وديمقراطية في العالم وفي احترام حقوق الإنسان وأكثر تطورًا في الاقتصاد والصناعة والزراعة والتكنلوجيا والعلم والمعرفة وكلّ ما يمكن أن يخطر على البال.
من هنا تأتي الأصوات العقلانية بوضع حدود لهذه الحرب الشرسة التي تُخشى عواقبُها من تحوّلها لحرب نووية قادمة ستطيح بالإنسانية جمعاء وبالجنس البشري على واجهة البسيطة. وكما حذّر وزير الخارجية الروسي المحنّك، من أن “مخاطر اندلاع حرب نووية الآن كبيرة جدا ولا يجب الاستهانة بها”. وهو بهذه الكلمات يعي ما يقول. فالزر النووي لا يفارق رئيسَه أينما حلّ وارتحل استعدادًا لاستخدامه متى شاء وقرّر، لا سمح الله! فعندما تكون الحياة والوجود على المحك، لن يكون ذلك عسيرًا على أصحاب القرار في حالة دبّت المخاطر وقربت ساعة النجاة بالجِلد، كما يُقال. لقد بدت العقوبات المفروضة على روسيا بأشكالها وتنوعها وأدواتها غير فاعلة لفعلها بدرجة وافية. فالعملة الروسية لم تتأثر كثيرًا، بل تعزّزت قيمتها بعد سياسة فرض بيع الغاز الروسي لغير الأصدقاء بالروبل. كما أنّ القمح الروسي الذي يعتمد العالم على جزءٍ كبير من توريده لم يتأثر بل زاد محصوله إلى أكثر من خمسين مليون طن قابل للتصدير هذا العام، في ضوء فقدان خصمه الأوكراني لقدراته الزراعية من هذا المحصول المشترك الذي كان يغذّي السلة الغذائية العالمية. وطالما داومت صادرات النفط والغاز في روسيا في العثور على أسواق جديدة، فهي في أمان وانتعاش بالرغم من تكلفة الحرب اليومية المليونية. ولنتصور بلدَين، أحدهما يصارع من أجل توسعة مجاله السياسي والاقتصادي والديمغرافي وسط انتعاش موارده الريعية بفعل غزارتها وإدامة تصديرها، مقابل بلدٍ متهالكٍ في كلّ شيء في السياسة والاقتصاد والموارد والصناعة والزراعة وخسارة الأرض والبشر. ومثل هذه الوقائع والأرقام والأفعال لا بدّ من وضعها نصب الأعين في أية خطوة قد يتخذها حلف الناتو ودول الغرب الأوربي خاصة. فهذه الأخيرة عليها التفكير من مغبة الانجرار وراء الطموحات الأمريكية الحالمة والمشاريع التدميرية العالمية التي تصدّرها بعيدًا عن أراضيها وهي نائمة في أشهر العسل بعيدًا عن نيران الحرب الضروس التي بدأت فعلها السلبيّ في بلدان الاتحاد الأوربي الذي استشعر الخطر متأخرًا، فيما لم يكن في حساباته ديمومة النزاع بشكله المأساوي الحالي.
كلمة صريحة
لا بدّ من كلمة صريحة، وقد تكون قاسية. إنّ مسألة انضمام اوكرانيا إلى الاتحاد الأوربي ومنه إلى حلف الناتو، لن يكون سهلاً. بل قد تستغرق الإجراءات سنوات. وقد قالها الوزير الفرنسي، المندوب للشؤون الأوروبية كليمان بون بصدق وعفوية في تصريح له في 22 أيار 2022 بأن انضمام أوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي قد يتطلب ما بين 15 إلى 20 عاماً”. وبالرغم من سعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحث دول الاتحاد الأوربي لصياغة جديدة أكثر ليونة تسمح بانضمام اعضاء جدد للاتحاد في نفس الوقت الذي دعا فيه نظراءَه لعدم حصر روسيا ولا إدارته في بوتقة ضيقة، إلاّ أن مثل هذه الدعوة قد تواجه عقبات كثيرة داخليًا، سواء من اليمين الفرنسي المطرّف الحائز على مقاعد تمثيل متقدمة في آخر انتخابات تشريعية فرنسية أو من قبل تحالف اليسار الذي حصد مقاعد إضافية جديدة قد تحدّ من تطلعات الحكومة الفرنسية الجديدة والرئيس الفرنسي وفريقه الذي عليه أن يتصارع سياسيًا مع خصومه للبحث عمن خارج آمنة ومقبولة للنزاع الروسي-الأوكراني وإنقاذ فرنسا ومعها أوربا من خطورة الوضع المتأزّم في حالة استمرار النزاع وتمدّده أو خروجه عن السيطرة. ومن الواضح من تصريحات الرئيس الفرنسي المتواصلة حرصه مثل نظرائه الأوربيين على وحدة الصف الأوربي تجاه الوضع في أوكرانيا مع عدم إهمال قدرات روسيا الهائلة في فرض ما تسعى إليه، وفي مقدمتها إبعاد شبح التسليح والتهديد الغربيين عن حدودها وضمان أمنها القومي قبل أيّ شيء وفق نظرتها في الشأن الدولي. فالطرفان يسعيان لإيجاد البدائل عن ضماناتٍ لوضع أمنهما القومي الذي يبدو على المحك مع اندلاع النزاع في 24 شباط المنصرم 2022.أخيرًا، هناك من يرى أن قمة مدريد ستكون تاريخية من ناحية اتخاذ قرارات هامة تخصّ أمن المنطقة ودول الاتحاد، مع ضمانٍ لإدامة القدرات العسكرية والدفاعية لأوكرانيا التي نالت مؤخرًا صفة الدولة المرشحة للانضمام للاتحاد الأوربي ومنها إلى حلف الناتو. هذا إضافة إلى جدول أعمال مكثّف بخصوص معالجة أزمات مستفحلة مثل الإرهاب والنقص في الطاقة والغذاء والنتائج الكارثية للتصحر في عدة مناطق من العالم ونقص المياه وأزمة التغيّر المناخي والسبل الكفيلة بمعالجة الانبعاثات الكاربونية المتزايدة، لا سيّما مع النقص القائم في تجهيز الغاز الروسي واضطرار بعض الدول للعودة إلى استخدامات الفحم، بحسب تقارير واردة. وستكون الأزمة الاقتصادية أيضًا ضمن مباحثات المسؤولين والمختصين في الشؤون المالية والاقتصاد والمصارف على حدّ سواء.