الدول العقيمة وأسباب هشاشها
عدنان سمير دهيرب
أفضى هامش الحرية الذي بزغ مع ولادة النظام السياسي بعد الاحتلال الامريكي للعراق ، خلال الاعوام السابقة ، الى تدوين كتابات جمه، ربما ترتقي أو تنافس ما كتب خلال مائة عام إثر تأسيس الدولة العراقية ، تلك الاعوام المكتنزة بالصراعات والتحديات و الحروب والاعتقالات والازحات بين الاحزاب التي بدأت التأسيس عام 1924. حركات سياسية تبحث عن السلطة و الاستئثار بالمكاسب و الهيمنة على الشعب والموارد الطبيعية التي ينماز بها البلد . تغييرات سياسية ومتغيرات اجتماعية صادمة هي سمة المرحلة الجديدة نحو التحول من الدكتاتورية و الاستبداد الى النظام الديمقراطي الهش بكل مفاصله .
بفعل التضاد الايديولوجي بين مرحلتين ، ربما تلتقي في بعض المحطات جراء البيئة الاجتماعية والسياسية ، ويختلف احياناً نتيجة لتحول النظام السياسي وشكل السلطة و تعدد القوى التقليدية والسياسية المؤثرة في الواقع الذي مازال مضطرباً مفككاً بفعل تراكم أسباب الفشل في الدولة خلال العقود المنصرمة من سنوات الحكم الغارقة بالصراعات والقتل و القمع والاغتيالات التي مازالت تشكل خريطة للواقع السياسي الذي ما برح يعاني من اخطاء بنيوية تتراجع فيها سلطة الدولة أمام سلطة القوى الساسية والتقليدية السائدة و التي كان بها بالغ الأثر في إعاقة سيادة القانون .
هامش الحرية في الكتابة والنقد والتحليل مع تعدد وسائل الاعلام والاتصال الاجتماعي ، و ظهور المواطن الصحفي أنتج ملايين الكلمات و المعلومات المؤطرة بأنصاف الحقائق أن لم نقل دونها . و يشير عقيل عباس في مقدمته لكتاب الدولة العقيمة لمؤلفة حسن الجنابي الى أن تقسيط الحقائق وانتقائها و إعادة تشكيل سياقاتها على نحو يحولها الى سعي أيديولوجي ، لتسجيل نقاط ضد خصوم السياسيين ، و تأكيد الفرادة الوطنية و الانسانية المفترضة لهؤلاء اللاعبين . لسوء الحظ ، أسهمت هذه العادة السيئة ، التي لم تشرع قوانين لردعها ، ولم يتشكل رأي عام نقدي ((يعاقب)) ممارسيها سياسياً واخلاقياً ، ليس فقط في تضييع المسافة الفاصلة والمهمة بين الكذب والحقيقة ، بل أيضاً في الترويج لسياسات خاطئة وشخصيات إشكالية قامت ، مجتمعةً ، بدور سلبي و حاسم في دفع البلد نحو مسارات الفوضى السياسية والفشل المؤسساتي والغضب الشعبي المشروع التي لا يبدو ان في الافق حلولا منصفه لها.
وتأتي أهمية الكتاب الصادر عن دار المدى -2021 - من مؤلفه كشاهد عيان او عضو في حكومة بوصفة وزيراً للموارد المائية ، وبذلك فانه مصدر للمعلومة من جهة صنع القرار ، و كيفية التعامل مع الاحداث والاضطرابات والتظاهرات شهدها العراق بين عامي 2016-2018 ففي الفصل الاول يتناول ايديولوجيا الاحزاب ومؤتمراتها قبل سقوط النظام السابق إذ يشير الى المحاصصة التي أخذت تشكل نظام الحكم في العراق ليس فقط لدعوة رئيس سلطة الائتلاف بول بريمر وانما بسبب زخم النزوع نحو التميز الطائفي و القومي اقوى من النزوع الوطني ، على الاقل عند أكثرية المعارضين اللذين تصدروا المشهد . فقد انتهت مرحلة البحث عن تحقيق الحضور الهوياتي و بدأت مرحلة المنافع و الزحف على مفاصل السلطة و المال . و قد ساعد الموقف الامريكي التسطيحي أثناء تشكيل مجلس الحكم في تكريس ذلك ، فأصبح وسيلة لحكم العراق ، إذ كان يُنظر للتنوع المجتمعي في العراق باعتباره تجمع مكونات مقموعة و ليس مجتمعاً منوعاً أنتجه تاريخ من العيش المشترك و المصير الواحد.
عصابات داعش
وإثر الانتهاء من المعارك التي قضت على عصابات داعش بعد معارك شرسة لاستعادة المدن التي أغتصبتها تلك العصابات الاجرامية . رجعت التظاهرات ثانية الى العاصمة و المدن الجنوبية التي كان لدم ابنائها المسفوح في معارك التحرير الدور الكبير و الاثر الباذخ في النصر، لتعود الى مطالبها التي طالما رفعت في الساحات و الشوارع لمعالجة معاناتهم جراء غياب العدالة الاجتماعية والخدمات و العيش الكريم ، تظاهرات كان التعامل إزائها باسترخاء واهمال يكشف عن الفجوة بين الشعب والسلطات منذ إنطلاقها في عام 2011 ، بل التعامل معها بقسوة من خلال استخدام كل وسائل الانظمة الدكتاتورية في القتل و الاغتيالات والاعتقال واشكال العنف المادي واللفظي.
غير أن رئيس الحكومة العبادي كان (مستسلماً لعزلته المختارة فوق الجميع الى ان أدرك أنه لم يعد قادراً على تأجيل الاجراءات المطلوبة منه بحكم منصبه فوافق مُكرهاً على إجراءات لم يعد لها ، بسبب تأخيرها . فقد أدرك متأخراً خطورة الوضع الثوري الاحتجاجي الممتد من البصرة الى بغداد).
والحقيقة التي لا يمكن تجاوزها في اسباب هشاشة الدولة ، بتولي افراد على اساس الانتماء الحزبي او الطائفي والقومي والاثني الذي كرس المحاصصة التي افضت الى الانقسام و الفشل في تطبيق القوانين، و اشاعة الانسداد السياسي في ديمقراطية ليس فيها غير الشكل بإجراء انتخابات بين أحزاب تجسد الواقع المكوناتي لا الوطني .
(فقد تأسست دولة الوكالات ، أي استخدام الصلاحيات و الاوامر الديوانية لتسيير الدولة بالوكالة . وجرت التعيينات في المناصب العليا والحساسة و الامنية وفق قائمة مقاييس كان معيار الكفاءة والمهنية ثانوياً فيها . وتصدرتها معايير حزبية و طائفية ومحسوبية ، وفق مفهوم ((اصحاب الثقة أفضل من اصحاب الخبرة )) لان الخبرة تكتسب بالعمل ، اما الولاء فهو الاصل)).
ومن الوقائع الطريفة التي تكشف عن المستوى الضحل الذي تسير عليه مؤسسات الدولة يشير اليها الكاتب ان بعض الكتب الرسمية التي كان يوقعها شخصياً السيد جوهان باعتباره وكيلا لوزارة التخطيط ويوجهها الى وزارة المالية ، كان هو نفسه يوقع رفضه باسم وزارة المالية على الكتب الجوابية الى وزارة التخطيط، في مشهد يقترب من انه كوميديا حقيقية و مؤشر فاضح على أداء الدولة العقيمة فوكيل وزارة التخطيط السيد ماهر جوهان وكيل زوارة المالية ، ليأتي رفض الاخير بكتاب رسمي بتوقيع السيد ماهر جوهان ايضاً.
فيما كان مجلس الوزراء نفسه يقترب من انه تجمع شكلي لأفراد يمثلون مصالح متناقضة ، وأحزاباً مختلفة تنعدم بينها المشتركات ، وتحكمها توازنات ملتبسة لا يوجد بينها أي انسجام ، او حرص على الانسجام ، سواء بين اعضاء مجلس الوزراء انفسهم ، او بينهم و بين رئيس مجلس الوزراء.
وهذا الامر أنعكس على إجراءات الحكومة و عملها الهش في التعامل مع القضايا ذات المساس المباشر بحاجات الناس الغائبة ، التي تتفاقم يومياً و تنعكس في إحتجاجات مستمرة ، تطور الى رفض الطبقة السياسية الحاكمة ، هذا الاسترخاء في تنفيذ الواجبات الاساسية للدولة من ناحية و عدم الاستجابة لمطالب الجماهير من ناحية اخرى ادى الى دينامية الاحتجاج و التظاهر في معظم المحافظات العراقية ، و هذا الاهمال لم يكف في زمن حكومة العبادي فقط بل الحكومات السابقة لاسيما حكومة المالكي التي شهدت احتجاجات في العاصمة بغداد والمحافظات الغربية كالانبار .
ويرى الجنابي ان الحكومة كانت عاجزة عن تقديم أي مستوى معقول من الخدمات ,لكنها مثلت ميادين واسعة للفساد و الاثراء غير المشروع . فتضخمت ثروات بعض افراد مجالس البلديات او المحافظات الى مستويات مرعبة ، ضاعفت من حجم الغضب الشعبي و الاحتجاجات التي كان السيد العبادي يستهين بها ، بما يذكر بمقولة ((الفقاعة)) حول احتجاجات سابقة مهدت الطريق للغزو الداعشي عام 2014.
وقد احتل العراق خلال السنوات المنصرمة بعد التغيير السياسي مراكز متقدمة بين الدول الاكثر فساداً في العالم وفق مؤشرات اعتمدتها منظمات دولية ، كانت معياراً لفشل الدولة .
وضع اقتصادي
في معالجتها لقضية اصبحت ضمن اهتمامات الرأي العام العراقي والمنظمات الدولية ووسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي ,فقد كان ومازال المال المنهوب احد اهم الاسباب في سوء تفاقم الوضع الاقتصادي و ارتفاع معدلات الفقر والبطالة و انعدام الخدمات الصحية و التعليمية والتربوية ، ولأن التيارات الحزبية والرسمية وادواتهم في مؤسسات الدولة او جراء تغلغل ورسوخ الدولة العميقة وسطوتها على القرار و المال باستخدام سلطتها، إذ تمتلك كل الاحزاب أذرع مسلحة لها القدرة على تهديد الدولة واشاعة الفوضى والاضطراب ، مما حال دون اتخاذ إجراءات عملية لمعالجة الفساد الذي يأكل من جرف الدولة .
فقد (هدد نوري المالكي أثناء حكمه عشرات المرات بكشف ملفات فساد ضد خصومه و لم يفعل . ولا ادري ان كان هذا السلوك التلويحي يُعد تستراً على الفساد . تكررت الحالة لدى عادل عبد المهدي ، فقد نشر أنه وفي معرض رده على دعوات استضافته او استدعائه من قبل مجلس النواب ,طلب ان تكون الجلسة علنية ومباشرة لكي يكشف ما اوحى بأنها ملفات فساد ضد اخرين .
فيما اشار العبادي الى امتلاكه ادلة واثباتات تكشف تورط بعض الشخصيات النافذة وكان فريق أممي أنجز تقريراً حول 1700 ملف فساد تخص تلك الشخصيات طرحت امام العبادي رئيس الوزراء ، لكنه لم يعرض أي ملف على مجلس الوزراء او الجهات المختصة للمعالجة ، ويؤكد الجنابي ان ملفات معقدة كالفساد المستشري المتمثل بشبكات متخادمة ومتمترسة كما ينبغي لا يهزمها الا دولة مؤسسات قوية ، وبالأخص أجهزتها المعنية بالرقابة وتطبيق القانون .وبالرغم من ان الكتاب -الوثيقة- يشدد على مرحلة إستيزار الكاتب لوزارة الموارد المائية بوصفه مهنياً ، علمياً في اجراءاته ودوره الكبير في ادراج الاهوار على لائحة التراث العالمي فضلا عن طروحاته العلمية في معالجة مشكلة ملوحة مياه البصرة التي كانت السبب الرئيس لتظاهرات المدينة التي عانى سكانها من التسمم جراء نسب الملوحة العالية . غير ان رئيس الوزراء حيدر العبادي لم يصغ او يتناول ما يطرحه الوزير بشكل جدي بهدف المعالجة الحقيقية مثلما اشار الى ذلك في سطور عديدة من الكتاب الذي يُعد مصدراً مهماً لمرحلة غاية في التعقيد . فقد استفاض الكتاب في تناوله لقضية الاحتجاجات التي انطلقت في العراق و التي اطاحت بحكومة عادل عبد المهدي ، و قبلها احتجاجات البصرة والمحافظات الاخرى التي كانت احد الاسباب في عدم تجديد رئاسة الوزراء لحيدر العبادي بعد انتخابات عام 2018 وفقد كل ناخبيه في انتخابات 2021 ، اذ حصلت قائمته على مقعدين فقط .