مقترب نقدي سير ذاتي لـ (ثلاث وستين) للروائي أحمد الجنديل
عقبات وشروط تعجيزية تجبر الكاتب لدفع الرشا
مصطفى لطيف عارف
يجمع المختصون على القول بصعوبة الاتفاق على حد جامع مانع لمفهوم السيرة الذاتية ، نظرا لعدم القدرة على التمييز العلمي بين مصطلحات متعددة يقال عنها أنها تنتمي إلى عائلة واحدة ، هي السيرة ، أو أنها أجناس أدبية صغرى متفرعة من جنس أدبي كبير هو السيرة، مثل التجربة الذاتية أو الترجمة ، والسيرة الذاتية ، والذكريات ، والمذكرات ، واليوميات ، والاعترافات ، وغيرها الكثير من المصطلحات التي تشترك بكونها سردا لحياة شخص يرويها هو بنفسه- وربما يتبرع له آخر بروايتها نيابة عنه كما في السيرة الغيرية- معتمدا على ذاكرته في استرجاع أحداث وموضوعات ماضية ، وعلى الرغم من جهود النقاد والعلماء للفصل بين هذه المصطلحات فصلا علميا دقيقا ، إلا أننا ما زلنا بإزاء غموض والتباس في تحديد ملامح المصطلحات أنفة الذكر ، ومما زاد الأمر تعقيدا مسالة التداخل الاجناسي التي هي من صميم النقد الأدبي الحديث ، لذلك صار من المألوف أن يكتب مصطلح الذكريات أو المذكرات أو اليوميات على نصوص السيرة الذاتية التي تصور أحاسيس الشخصية وانفعالاتها في أثناء عرضها لتاريخها الماضي ، ونحن نتفق مع الصديق عبد الكريم السعيدي فيما ذهب إليه .
رواية ثلاث وستون للروائي الكبير احمد الجنديل رواية سيرة ذاتية بامتياز كتبها ، وعاش أحداثها، وتفاصليها من بداية الرواية ، حتى نهايتها المأسوية،ادخل في الرواية تقنيتين سرديتين جديدتين: يروي لنا السيرة الغيرية للراوي العليم وليد عبد العظيم ، ويروي سيرته الذاتية ،الذي أفنى عمره، وشبابه في تربية الأجيال، وينتظر مكافأة الدولة له على خدماته الجليلة التي قدمها ، فبدأت معاناته تتجسد في مراجعة مديرية التربية ، فكشف المستور للموظفين، والمسؤولين الذين يتعاطون الرشوة بقوله :- لاشيء ، معاملتك تنجز وأنت في البيت ، وستجد ما يريحك ويسعدك ، لا شيء سوى مبلغ من المال تدفعه إلى السيد المدير والست مديحة، وينتهي الأمر ، أما أنا فما أقوم به أكراما لوجه الله ، انفرجت شفتاي عندما سمعت جملته الأخيرة ، وأطرقت إلى الأرض مستسلما : - ما قيمة المبلغ المراد دفعه؟ وزع نظراته على المكان المحيط بنا ، واقترب مني هامسا : - مليون دينار فقط ، تشتري به راحتك ، ويغنيك عن متاعب السفر والمراجعات .
فكانت المفاجئة ،والصدمة للمعلم النزيه ،والشريف ، كيف يتعامل مع هولاء.
وثيقة تاريخية
والسيرة الذاتية ما هي إلا نمط ،وشكل سردي غالبا ما تكتب نثرا ، فهي تعتمد على ذاكرة راويها باستعادة ماضيه ،ومحاولة أحياء بعض جوانبه التي يرى فيها الروائي احمد الجنديل خصوصية أو تميزا ، إلا أن هذا لايعني أن تكون تلك النصوص وثيقة تاريخية خالصة عن كاتبها ، لا يتخللها الخيال ، فربما تخيل الروائي أحداثا لا تخصه ولكنه سمع بها من أناس لهم صلة بها ، وحديثه عن نفسه ليس بالضرورة هو سيرته الذاتية كما كان يعتقد الواقعيون ، فشخصيات السرد هي كائنات من ورق كما يقول بارت ، أو هي تقنيات لغوية كما يقول تودوروف ، وتستمر معاناة الراوي في العقبات التي تضع أمامه ،والشروط التعجيزية من اجل إجباره على دفع الرشوة ، لكنه يقابل المدير العام لعله ينصفه لكن دون جدوى ، ويعيد الزمن الماضي بقوله
: بقي حنش يحدث المدير عن بطولاتي في مقارعة الظلم والطغيان ، وحديث الست مديحة عن بلد احترام القانون يعيد حضوره في راسي ، ابتسمت فقابلني المدير بابتسامة أحسن منها ، كنت قد ابتسمت عن بلد الكذب الممتد عبر مئات السنين ، وكلما رحل جيل أهدى كذبه للجيل الذي يليه، ومع مرور الزمن أصبحنا نتفاخر بهذا الكذب المدمر ، عادت الست مديحة إلينا من جديد ، وهي تخبر مديرها بان اضبارتي جاهزة لإرسالها إلى دار التقاعد ، تنفست الصعداء لان الكلب سوف لا يمر على دكان القصاب . استطاع الجنديل سرد الأحداث الماضية بصورة شعرية ،وشاعرية دموية حزينة جسدت معاناة السجين العراقي المظلوم في زنزانته ، وأعطنا صورا فوتوغرافية بأسلوبه المتميز ،وكتابته السردية الرائعة، نجد أنفسنا أمام مدة زمنية قصيرة، و حدث مختزل جدا إلى أقصى حد، و الذي يكون الراوي / السلطة هما أساس الأحداث ، غير أن هذه المدة الزمنية القصيرة تطرح هي الأخرى بدورها زمنا أطول على مستوى الخطاب الروائي الذي يخضع لمجموع النصوص ،و الأحداث الجزئية المكونة للرواية ككـل ، بحيـث يبـدو لنـا البناء الزمني للرواية السيرة الذاتية عنصرا معقدا ،و شريانا حقيقيا من شرايينها ، تعود به الذاكرة إلى الماضي عندما تم اعتقل المعلم النزيه ، والدائرة تطالبه بالمدة الزمنية التي انقطع فيها عن الدوام كنت مشدودا إلى ذاكرتي وهي تسرد لي ما حدث قبل أربعة عقود، وعندما انتبهت إلى نفسي ، أدركت أن الماضي يطاردني ، وان لعنة توقيفي كانت السبب في ما حصل لي اليوم ، فلولاها ما كانت الحاجة إلى كتاب تأييد ، ولا السفر في زمن الكورونا، ولا هذا العذاب الذي أنا فيه ، من يعلم ؟ ربما الضابط الذي فجر جروحي يمارس اليوم دوره بأسلوب جديد، أو ربما يكون لاجئا سياسيا يتمتع بمباهج الحياة في العواصم الراقية 0 الجنديل بقدرته النقدية ، وبريشته الفنية ،رسم لنا لوحة فنية جسدت حجم المعاناة في مراجعة الدوائر الحكومية ، وحجم الدمار الذي حل بالموظف العراقي الحالي ، وأجمل ما في الرواية رحيل الأستاذ عبد العظيم عن الحياة ،ولم يحصل على التقاعد، وهي صورة واقعية لمصير مئات الأساتذة فنراه يروي الراوي سيرته الذاتية عن طريق لسان ولده رياض بقوله : اخبرني الطبيب بان سبب الوفاة كان عجزا في القلب ، كنت اعرف ذلك قبل أن يخبرني الطبيب ، القلب الأخضر اليانع بينابيع العطاء لا يحتمل كل هذا العذاب ، كان منذ طفولته يسعى إلى العفة، والنزاهة وبعدها وجد نفسه غارقا في بحر من الانتهاكات والمعاملة الذليلة.