شارع المتنبي والتراجع الحضاري
ماهر نصرت
ان هذه السطور التي جئت بها هي من الواقع الذي رأيته امامي وليس من وحي الخيال عندما كنت حاضراً في شارع المتنبي في أحد الايام الماضية فقد تتقدم الشعوب عندما تعمل مع حكوماتها على تصحيح اخطائها والغاء كل ما هو مضر في المجتمع أو يظهر نشاراً عند تشكيل فسيفساء الدولة من أجل إيصال شعوبها في حاضرها على اقل تقدير الى وجه حضاري جديد خالٍ من الاشكال والمواقف المتأخرة بدلاً من أن تعطي انطباعاً سيئاً للسائح وتجعله يشمئز من المشاهد المقرفة ويبني تصور سيء لما يدور داخل هذا البلد ، ويبدو أن مجتمعنا قد تأخر كثيراً عن ركب الحضارة العالمية وتراكمت لدينا العادات والطبائع السيئة وكأننا خرجنا للتو من كهوف الجبال أو من ادغال الغابات كما كان حال إنسان العصر القديم .
صفة ثقافية
أن شارع المتنبي هو الشارع الوحيد الذي بقي يحمل بصمتنا الثقافية أمام العالم من خلال مايحويه من خزين ثقافي وهذا الشارع كما هو معروف عنه صار يقصده كل زائر من خارج القطر او من باقي محافظاتنا ليتطلع الى ما وصل اليه العراق من تقدم ثقافي وحضاري ونحن في القرن 21 فقد رأيت هناك مناظر مخجلة جعلتني اصاب بالحزن الشديد وانا اسير متجهاً من بداية مدخل الشارع باتجاه النهر ، فقد مررت بعدد من المتسولين وأولهم كانت احدى النساء وهي تقف عند مدخل شارع المتني تحمل بعضاً من علب ( الكلينكس ) الصغيرة تستجدي من هذا وذاك بحجة انها تبيع هذه العلب الورقية والمشكلة انها تلتصق بالمارة وتتوسل بهم بأسلوب اقرب الى الذل والخضوع لتبيع ماتحمله تحت الحاح شديد ومخجل وراح البعض منهم يهرب من الحاحها ويسرع في خطواته جزعاً ينتقد لجاجتها وجرأتها المعيبة واخذ الكثير من المارة يتحفظ من سطوتها ويسرع الخطى خوفاً من ان يقع فريسة في شباكها ، واصلت السير حذراً نحو الامام أنا ايضاً وعلى مسافةٍ قريبةٍ من دراما الكلينكس تلك تقف احدى النساء بهيئة جميلة تحمل معها اوراق تطلب من المارة بطريقة اقرب الى التوسل التبرع الى جمعية خيرية او انسانية او شيىء من هذا المفهوم وتريد ان تُقّدم لمحدثها ماتحمل من اوراق يؤيد ادعائها ذاك ، ان هذا السيناريو هو نوع مستحدث من الخداع للحصول على الاموال اخترعوه مؤخراً بعد أن أرادوا استغلال طبيعة المجتمع العراقي المعروف عنه بكرمه المفرط وقد اختاروا لهذا الامر اشكالٌ متنوعة من النساء أي من ( الجنس اللطيف ) لكي يؤثروا على عواطف الرجل فيقع بعضهم صريع سطوتها العاطفية ويرضخ لمطالبها ويمنحها ما يحمل في جيبه من مال مقابل ابتسامة ومجاملة يتلقاها منها ويمضي ومشاعره في نشوة وانشراح وانطلاقة روحية مخملية كان بحاجة ماسة اليها وخاصة مع أولئك المحرومين أو من الذين يعانون من الانفصال الاجتماعي عن المرأة ، واصلت السير نحو النهر واذا بأمرأة كبيرة في السن على بعد خطوات تفترش الارض وسط الطريق بعبائتها السوداء الملطخة بأوساخ الارض ، كان منظراً معيباً حقاً وهي تستجدي من المارة بتوسل وتدعي بأن لها ايتام وانها مسؤولة عن عائلة وهي محتاجة وساعدوني يامحسنين وعلى بعد خطوات ايضاً كان هناك اطفال يتسولون هم ايضاً يستجدون من المارة بحجة انهم يبيعون العلكة وعملية البيع تلك هي لتغطية استجدائهم بحجة انهم يعملون ويبيعون بضاعتهم بشرف .. ان رجال الشرطة وللاسف الكبير لم يمنعوا هذا العمل الاستجدائي الذي يضر بالوجه الحضاري للبلاد وخاصة امام الزائرين الاجانب الذي رأيت البعض منهم هناك فعلاً وهم من ماليزيا أو احدى دول جنوب شرق آسيا كانوا سائحون على ما يبدو راحوا يلتقطون الصور من هنا وهناك وقد خجلت في اعماقي من هذه المشاهد التي ستنقل الى بلدانهم وتشوه سمعة بلدنا الغني للأسف الكبير ورأيت ايضاً مجموعة اخرى من السواح اعتقد كانوا من الهند او من باكستان ... لقد سمعنا لمرات عديدة بان رجال الشرطة راحوا يلقون القبض على هولاء المتسولين الشحاذين في الشوارع وتقاطع الطرقات الرئيسية داخل بغداد ولكن هولاء مازالوا يجوبون شارع المتنبي وخاصة ايام الزحام بشكلٍ علني وهو الواجهة الثقافية الوحيدة الذي بقي للعراق امام العالم فهم يظهرون امام انظار الناس بدون اي ممانعة من رجال الشرطة .
عربات بيع
ليس هذا فحسب بل تنتشر في نفس الشارع الثقافي عربات يبيع اصحابها ( الدولمة واللبلبي والباقلاء وما يسمى الترمس ) وتسمع في اجواء المنطقة هنا وهناك صيحات الباعة مثل ( لبلبي طيب ياولد .. هاي الجاي ... كهوة مرة وكهوة وسط – حلي حلكك فرح جهالك ) وتنتشر فوق الارصفة منصات لعمل عصائر الرمان والبرتقال وفواكه غريبة لااعرف تسمياتها اعتقد كان اسم احدها ( منكة ) واين ما تولي وجهك فثمة منضدة أو ( جنبر) لبيع الشاي والكاكو وبجانب تلك الكشكات والعربات المتجولة صناديق كارتونية وحاويات مليئة بالقمامة التي تشوه منظر المكان فقد تحول الشارع الى فوضى تشبه الى حدٍ كبير فرجة العيد عندما كنا نذهب هناك صغاراً ونجد ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات والفوضى المكانية هذا بالاضافة الى أن مناضد الكتب راحت تزحف الى الامام يوماً بعد اخر فصار الشارع ضيقاً مزدحماً وخاصة ايام الجمعة يعرقل مسيرة الناس هناك ويحصل الاحتكاك بين الذاهب والعائد في الممر الوحيد المفتوح بين المناضد الذي لايتجاوز المترين ، يبدو أن امانة العاصمة صامتة لاتتدخل بالموضوع وتمنع هذا الاحتلال المنضدي لمساحات كبيرة من هذا الشارع الوحيد والارصفة التي اغلق بعضها أمام المارة بسبب بضائع المحلات التي اخرجوها خارج محلاتهم لاغراض الدعاية فليس من المستبعد أن يتحول شارع المتنبي بعد سنوات قريبة قادمة الى سوق للمأكولات الشعبية عندها سيفترش الباعة مأكولاتهم هناك فوق الارصفة كما كان يحصل في سوق النهضة وسوق العلاوي اثناء الحروب الماضية وسنرى بعض محلات الكتب قد تحولت الى مطاعم ومقاهي ومحلات للملابس والكماليات وافران للخبز والصمون والمعجنات وعمل البقلاوة والداطلي وزنود الست وستلقى الكتب هناك ضربة قاضية من هذا التحول الدراماتيكي السييء وسيسقط صرح الثقافة العراقية حتماً الذي وضع في المنصور بالقرب من متنزه الزوراء لأن مجموعة الايادي التي تحاول مسك عمود الثقافة المائل لاتستطيع الاستمرار في مسكه ومنعه من السقوط وسط هذا الاهمال العظيم واللامبالاة من قبل الدولة واصحاب الشأن وستنهار أسس الثقافة في هذا الشارع الوحيد لعدم وجود الدعم الجماهيري والدعم الحكومي لها وتمرد افكار الاجيال الحديثة التي اتجهت نحو اجهزة الموبايلات والكلاوات وهجرت قراءة الكتاب وما تحمله صفحاته المعقدة من سطور طويلة لاتستسيغها عقولهم بعد أن وقعوا أسرى في شباك الحضارة العالمية الجديدة وانجرفوا مع تيارها المزروق المغري .. نسيت ان اذكر لكم ، هناك عربة في باب المعظم يبيع صاحبها خمسة جرائد بالف دينار أي الحاجة بربع وهذه الصحف هي الاخرى معرضة الى الغلق والرحيل لعدم سداد مصاريف اوراقها وطباعتها والوانها واتعابها فكيف تباع الصحيفة من ثمانية صفحات باقل من 250 دينار ؟ .. للأسف الكبير .